ستميح القارئ عذرًا؛ إذا ماعدت للولوج لتناول موضوع “الفن وأثره في صناعة وصياغة مفاهيم الحياة” من حولنا! فلقد كادت أن تجف أحبار أقلام الكتَّاب ــ المختصين وغير المختصين ــ في تناول هذا الموضوع الحيوي؛ لأنني أرى أن العوائد المرجوَّة في تناول هذا الموضوع؛ لم تأت ــ من وجهة نظري ــ بما نأمله على أرض الواقع المُعاش من حولنا! وأجد أنه من الأمانة ــ بصفتي العلمية والأكاديمية ــ وجوب التذكير الدائم به وبأبعاده؛ واستبيان مدى أثره على أرواح ونفوس البشر؛ في المجتمعات التي تحلُم وتسعى إلى الريادة والقيادة في عالمنا متسارع الخطوات نحو الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب؛ وأخص بالذكر مجتمعات شعوب ما يسمى ـ قهرًا ـ بالعالم الثالث!
ولكن.. لماذا كان المدخل في حديثي بعنوان: “ثقافة الفن.. وصناعة الحياة”؟ ذلك.. لأن هناك علاقة وطيدة بين الثقافة والفن؛ فالفن ـ والفنون بشكلٍ عام ـ ترتبط بثقافة المجتمع؛ وهما “جناحا الطائر” اللذان يستطيع أن يحلِّق بهما في آفاق العالم من حولنا؛ ومن خلالهما تمتلئ “المرآة” بما ينعكس على صفحتها العديد من الصور داخل المجتمعات البشرية ـ أفرادًا وجماعات ـ بما يحقق الانسجام والتآلف ـ بل والتراحم ـ بينهم؛ من أجل الحفاظ على “جينات الهويَّة القومية”؛ ولطرد وطمس العناصر الدخيلة على تلك الجينات النقية التي وهبها الله لعباده الطامحين إلى الارتقاء بالذائقة الجمالية والثقافة المعرفية؛ في مجالات الحياة كافة.
وعند تناولي لموضوع مقالي هذا؛ فإنني أتوجه بالعتاب لصناع الفنون في مصرنا المحروسة؛ في تلك الحقبة الفارقة في تاريخنا ـ وبخاصة في قطاع الدراما التليفزيونية والسينمائية ـ الذين لايريدون الخروج من عباءة البكاء والعويل على أطلال الماضي من عشوائيات؛ وتصوير ما يسمى بالواقع في الشوارع وعالم الحارات الخلفية؛ فقد اندثرت كل تلك المشاهد من حياتنا في “مصر الجديدة” تحت الظلال الوارفة للقيادة الوطنية المخلصة؛ فليست الواقعية هي “نقل صورة طبق الأصل” مما يحدث؛ ويجب أن يعلموا أن “دور الفن” هو محاولة التغيير إلى الأجمل لتصدير “الطاقة الإيجابية” في نفوس البشر؛ وحتى يلجأوا إلى تقليد الجمال.. بكل الجمال الذي يسري في النفوس والأجساد؛ فنحن الآن في زمن الارتقاء والشموخ؛ ولسنا في زمن انحسار وانكسار الحضارات؛ حتى نشاهد انتشار الفن الرديء؛ هذا الـ “اللافن” يعكس رداءة القائمين عليه من طبقة التجار الذين يشبهون من كانوا يطلق عليه “أثرياء الحرب” من تجار “الخردة” و”الروبابيكيا”! فإذا ما ظهر هؤلاء في دنيا الفنون؛ فلن تجد في تلك اللحظة ـ في هذه البيئة ـ جوقة المستنيرين في صناعة الفن الجيد الذي يخدم آمال الشعوب؛ بل ستجد من يتعاملون مع “الفن” كسلعة تقبل المساومة في “بورصة المنفعة” والكسب السريع؛ والصائدين في الماء العكِر الذي يتأثر بالأوضاع الاجتماعية المتدنية والصراعات السياسية! وما أكثر المتربصين بنا من دعاة الانهزامية والتخلف المجتمعي: ثقافيًا.. وفنيَّا.
وأعود للتأكيد على أن “الفن” وصنوفُه “سلاح ذو حدين”؛ ففيه ما يبني النفوس ويرتقي بها إلى أعلى مراتب الجمال والبهجة الروحية؛ وتعميق الإحساس بالجمال؛ ومنه أيضًا ما هو تدمير للعقائد والقيم الإنسانية الرفيعة التي أرادنا الله عليها بالفطرة السليمة والعقل والقلب الطاهر السليم.
إذن.. فالثقافة المعرفية؛ تُعد عنصرًا مهمًا من العناصر التي تُسهم في تشكيل الموضوعات الخاصة بالفن الأصيل؛ حيث تظهر بوضوح على الأشكال المتعددة في الفنون: الرسم/النحت/الموسيقا/صياغة الشعر/الكتابة لخشبة المسرح والسينما!
ولا يمكن لأي “مجتمع” يريد الحفاظ على خصوصيته وخصائصه وملامح حضارته في تاريخه المنصرم القديم؛ إلا بالتوثيق للأجيال الصاعدة والتعريف بها؛ عن طريق الأعمال الفنية الجادة والملتزمة بقيم وعادات وتقاليد المجتمع.
ولعلنا نرى هذا بوضوح فيما تركه لنا القدماء على جدران المعابد ودور العبادة ـ في كل الأديان والعقائد ـ حيث نستطيع أن نلمس الاختلافات وصراع الحضارات؛ وكيف بدأت “مصرنا المحروسة” في عصورها القديمة بصناعة “الخلود” للفن الراقي الذي تشهد به “الحجارة” قبل أن يشهد به “الإنسان”!
وأجدد دعوتي ـ كما كتبت مرارًا ـ في إعادة النظر في المناهج التعليمية والدراسية؛ في شتى المراحل التعليمية: من الحضانة إلى الجامعة؛ والعمل على إدراج “المناهج الفنية” في متن كتب القراءة والمطالعة؛ ودراسة أساليب الشعر الحديث؛ بعيدًا عن “أبوتمام” و”البحتري” وهجاء “الفرزدق” ـ ولست ضد هذا على الإطلاق ـ ولكني أرى أن يكونوا جنبًا إلى جنب مع شعراء الحداثة في عصرنا الحالي؛ ممن يقع عليهم الاختيار للدراسة؛ بواسطة هيئة من الأكاديميين المستنيرين أصحاب النظرة العصرية لأهمية الفن والفنون في صناعة الفرد داخل المجتمعات البشرية.
وفن الشعر يقوي بدوره اللغة العربية لدى النشء؛ مما يحافظ على مقومات التراث وحفظ الهوية وتقوية الانتماء، وهذا ما نحرص وتحرص عليه الدولة المصرية في ظل الجمهورية الجديدة.
فهل من آذان مصغية.. لهذا النداء الوطني الصادق؟! لأن الفن.. كان وسيظل هو المدخل الرئيس لصناعة وصياغة الحياة على ظهر الأرض؛ لرفاهية البشر.. والبشرية!