بقلم/ د. سعيد محمد المنزلاوي
للزمن أبعاد أخرى، فهو أكثر مرونة من الزمن بمعناه الفيزيائي، ومن ثم أمكن تطويعه وتقديمه وتأخيره أو إيقاف بما يحقق رؤية الأديب للأحداث والشخصيات، والتي ترتبط بالزمن حضورًا وغيابًا.
وفي قصة “غير قابل للنسيان” تقدم لنا الكاتبة تيمة “آلة الزمن” برؤية جديدة وتجربة فريدة في قصة غير قابل للنسيان” لكن آلة الزمن والتي تتمثل في ساعة المنبه، تنحصر فقط في غرفة نومها دون باقي حجرات شقتها، وهي تعود إلى الوراء؛ لتعيد ترتيب الأوراق، ولتغير في ذلك الماضي ما استطاعت. فهي استرجاع للأحداث ليس كما وقعت، ولكن كما تتمنى أن تكون قد وقعت.
تسرد الكاتب قصة صحفية علمت من رؤية ساعتها أنها تأخرت في نومها ست ساعات، هي نفس عدد ساعات نومها، وكأن عقرب الساعات لم يبرح مكانه منذ ضبطته قبل نومها، غير أنها لاحظت أن عقرب الثواني يدور في عكس اتجاهه مما يرجع بالزمن القهقرى، ليعيد إليها زوجها وطفلها اللذَيْن ماتا في حادث طائرة، نجت هي منها بأعجوبة. كانت الأحداث تتوالى الأحدث فالأقدم.. حتى إذا ما غادرت الحجرة إلى الصالة مثلًا، عاد إليها الزمن الطبيعي، ما جعلها تؤثر عليه الزمن الجديد الذي حمل لها الماضي ووضعه بين يديها ورد عليها زوجها وطفلها. كما جعلها تصحح أخطاء الماضي فتصطلح مع أختها والتي لقيت مصرعها في حادث طائرة، فتبعث لشقيقتها تخبرها باشتياقها إليها وبأن الميراث الذي سبب الخصام بينهما لا يعنيها، ونصحتها بتغيير رحلتها إلى أخرى.
بات عالمها محصورًا في تلك الجدران، وأهملت عالمها الواقعي وعملها، ولكن الكاتبة تأبى لها أن تستمر في هذا الزمن الوهمي وذلك الحياة الافتراضية، فتوقظها “وذات مساء دخلت حجرتي ناسية أمر خوفي السابق، لم يكن هناك شيئًا غريبًا، فقط ساعة متوقفة عن العمل، والكثير من الصور الملقاة على حافة السرير، وجواب مغلق لم أرد فتحه منذ سنوات، وعلبة حلوى فارغة في القاع”.
ويأتي عنوان كتاب “الإنسان ذلك المجهول”، والذي دسته الكاتبة في ثنايا النص، والذي عنونته بـ”ذلك المجهول” مستغنية عن المبتدأ في عنوان الكتاب، مجردة عنوان قصتها من تلك الإشارة للإنسان؛ لتسمح للخيال أن يحلق في مجاهل مختلفة ومتعددة، وأن تتمدد بها على مساحة النص من خلال جدلية قصة عن شيخ تجاوز الثمانين وأصيب بضعف الذاكرة. ويتمثل المجهول لديه في استعادة زوجه الراحلة عن طريق الخيال الذي بات وليد أمنيات لهرم ينتظر الرحيل، “فجأة سمعها قريبة منه جدًا، وكأنها إلى جواره ثم رآها في الحال تجلس على المقعد أمامه. صرخ فيها بلهفة:
– ” فاتن”! لماذا تأخرت؟ لم يبد عليها الانزعاج لسؤاله، بل ظلت تنظر إليه بحزن شفيف وابتسامة هادئة مرسومة بعناية فوق حدود شفتيها. تابع الحديث دون أن يرفع نظره عنها. هل تبقين معي الليلة؟ إنك تبدين غاية في الروعة والجمال “. وتأتي روح زوجه لتأخذ بيده حيث أراد دومًا. “وحين ناداه ابنه كي يدخل البيت معه لم يكن يرغب بتلبية ندائه.. لقد ذهب حيث أراد دوًما، حيث يسكن في أحضانها من جديد”.
ويأتي العنوان في قصة “اعتذار” مصدرًا لينهض على عاملين، يقدم أحدهما الاعتذار للآخر، حيث تكررت الجملة الحوارية مرتين، جاءت في المرة الأولى في ثنايا النص بين طرفين متغايرين “أعتذر، سامحيني”، وجاءت في ختام القصة بين الشخصية لقلبها “أعتذر، سامحني”، واضعة القصة بين قوسين، مشكلة في المرة تفاقم العقدة، وتنبئ في المرة الأخيرة أن ما كان داء أمسى دواء، على غرار، (وداودني بالتي كانت هي الداء).
الاعتذار الأول من طالب في المرحلة الإعدادية، تجرأ أن يكتب لزميلته كلمة “أحبك يا إيمان” ومهرها باسمه، لتجر عليه تلك الجرأة الويلات، ويفتضح أمره ويضطر إلى النقل من المدرسة لغيرها، وينتهي الأمر بالنسبة إليه عند هذا الحد، ولكن يبقى المثير لدى “إيمان” والتي اقتصت لنفسها وكرامتها، فتعيش حياتها دون قصة حب كزميلاتها، حتى إن زواجها جاء عاديًّا كزواج الصالونات، ومن ثَمَّ كان شعورها نحو زوجها لا يحمل حبًّا ولا مقتًا، ما جعلها تتشوف لمعرفة أخبار ذلك الذكر الوحيد الذي طرق باب قلبها، ولكنها أوصدت الباب في وجهه، فلم يطرقه بعده طارق. إلى أن عثرت عليه في زحام إحدى الأفراح يتأبط ذراع زوجته. لم تستطع الوقوف أمام صاحب الاعتذار الأول والحب الأول والذي لا يزال يطل من عينيه الدافئتين واللتين عجزت عن النظر إليهما، فهرولت مسرعة تجر أطفالها أمامها وتعتذر لقلبها، والذي جنت عليه مرتين؛ وليتكرر الرفض مرتين: الأولى حفاظًا على سمعتها كبنت، يمكن أن تلوكها الألسن، والثانية المحافظة على سمعتها كزوجة وأم.
الرئيسية ⁄ أقلام جادة ⁄ الزمن بين الحضور والغياب قراءة في المجموعة القصصية “الانتقام في زمن كورونا” للكاتبة سوسن محفوظ
أقلام جادة