أحمد طنطاوى
موقع (صاحبة الجلالة)
الحروف فى اللغة العربية نوعان: حروف مبانٍ، وحروف معانٍ الأولى هى الحروف التي تتشكل منها كلمات المعجم كحرف “س” فى كلمة “سلام”، فـ”س” حرف مبنى لا نستطيع حذفه وإلا فقدت الكلمة نفسها.
أما حروف المعانى (وتقدر بـ80 حرفا)، فهى حروف ليست من بنية الكلمة وإنما تضاف إليها كـ”سابقة” أو “لاحقة” فتزودها بمعنى طارئ عليها، كحرف “س” في كلمة “سيذاكر”، الـ”س” دخلت على “يذاكر” فأفادت التسويف/ التأجيل، وبديهى أن حذفها لا يؤثر على بنية الكلمة “معجميا” لكن يفقدها المعنى الطارئ عليها، ومن جملة هذه الحروف: حروف العطف، وحروف الجر وغيرهما
هذا القسم من الحروف يلعب دورا دلاليا وبلاغيا يصل حد العبقرية
من ذلك ما نجده من “الواو” فى الآيتين 71و73 من سورة الزمر:
١- “وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا، حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها”..
٢- “وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا، حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها”
الجزء الثانى من الآيتين يبدو متطابقا باستثناء حرف الـ”و” المضاف للآية الثانية.
هذه الـ”و” يسميها اللغويون بـ”واو الثمانية”، وهى تسمية تشير إلى إحدى خصائص اللغة العربية، التى ترفق الكلمة الدالة على معدود مكون من ثمانية عناصر بواو عاطفة.
لكن هذا – وإن كان يمثل “لفتة” دقيقة من القرآن الكريم تشير إلى أن أبواب الجنة ثمان – ليس هو مقصد المقال
المقصد يكمن فى الإشارة البلاغية التى تبنيها “الواو” كحرف عطف يفيد “المصاحبة”
وهنا نعود للآيتين: الأولى ـ الخالية من واو العطف ـ وتتحدث عن الذين خسروا أنفسهم فمكانهم جهنم، والثانية ـ المزودة بواو العطف ـ وتتحدث عن الفائزين بالجنة.
ـ “حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها”
ـ “حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها”
معنى المصاحبة الذى تضيفه الواو فى صياغة الآية الثانية يبنى مشهدا يتلازم فيه توافد المؤمنين مع فتح أبواب الجنة..
فهى مفتوحة بدءا من وصول أولهم..
من يصل يدخل..
وهذا مصدقا لآية أخرى تقول “جنات عدن مفتحة لهم الأبواب” (الآية 50 سورة ص)
أما الخاسرون (وهم أمم كثيرة طبعا) فلا حرف عطف يفيد تزامن فتح أبواب الجحيم مع بدء توافدهم.. فأولهم لن يدخل مع آخرهم
ما يعنى أن غياب الحرف يبنى مشهد “التزاحم والانتظار”.
وهنا يجب ألا تمر علينا كلمة “انتظار” مرور الكرام..
ذلك أن انتظار المكروه أقوى من وقوعه..
وانتظار العذاب عذاب قبل العذاب
هذه الدلالة البلاغية الدقيقة والعميقة بناها “وجود وغياب” حرف
مجرد حرف
لكنه “ألغى” “الانتظار” فى صياغة “وأثبته” فى أخرى
بنى دلالة “التكريم” كما بنى دلالة “الإهانة”
هذا جزء مما يسمونه” الإعجاز البلاغى للقرآن العظيم”
وجزء مما يسمونه “عبقرية اللغة العربية”