لا يعرف كيف حَدث معه ذلك الشيء الخارق وتحقق،فكل ما يعرفه أنه ولد بأصابعِ ملونة على اختلاف البشر المَولودين بأصابع لها لون البياض الفادح،أو السمار الواضح،ولا تدرجات حادة بينهم ،في البداية كان أهله يرون هذا ضربا من ضروب التشوهات الخلقية والولادية،خصوصا أنها تصطبغ دابغة كل ماتمر عليه من أشياء وحاجات، وتحولها من ألوان إلى ألوان أخرى تماما ،لفترة كان يضايقهم هذا،لكن مع الوقت صارت أمرا جيدا خصوصا عندما يَمُر على الجدران المُعتمة،والأماكن المظلمة،والحيطان المُعفرة باللهب،ويحولها للوحاتٕ تعج بالحياة،فأصابعه كانت لاتنضب ملامسها الملونة الناعمة ،وهي تشع بالتوهج،و تلون كل ماتمر عليه من ظُلمات ودُجنات،كل ذلك صار عاديا،ومقبولا ،لكن غير العادي هو أن تلك الأصابع التي تتحول كفرشاة جدرانية في بعض المرات،
وكريشة تلوينية على الكثير من الوحات في مناسبات أخرى ،كل تلك الأصابع المِصبغية ،لم تستطع تلوين جدران غُرفته الرمادية ،فقد حاول مِرارا وتكرارا العمل على ذلك،ووضع أصابعه على الجدران وفرشها حتى راحة يده ،لكنها رغم كل ذلك لا تترك أي صبغ ولا لون ولا.. ولا.. ولا،وهي تتجمد متوقفة لا تستطيع إضافة أي لون،حتى عجز عن ذلك وتوقف عن المحاولات،ورضى البقاء بين هذه الجدران القاتمة،دون جلب أية فرشاة خارجية وصبغ يمكن أن يعينه على تغيير هذا الجو الرمادي،فكيف يأتي بهذه الأشياء الخارجية ولديه صبغات طبيعية توازي كل أصباغ العالم الصناعية مُجتمعة، لذا صار همه ينصب على اللوحات المعتمة والقاتمة بلون الإهمال أينما رأها،وسقطت عليها عيناه،وقد تركتها ريشة الرسام تغرق في غياهب الترك،وأوداج الظلام،فتذهب لها أصابعه ليلا متسلسلة بهدوء عبر الشقوق المنسية والثقوب،المغمورة، وهو يشق الطريق عبر قدميه وعينية،ويحط أمامها،حارقا كل مافيها من عتمة وظلام، فما عاد يتذكر كمْ لونا من زهورٕ رمادية،ولا من طُرقات حالكة ،ولا من عيون مغمورة في قيعان الأحبار السوداوية،بل كمْ لونا من وجوه ووجوهٕ،وأزاح عنها ستائر الظلام،كل ذلك كان عاديا ،لكن غير العادي هو تلك الفتاة الكاملة الخلقة، ذو الوجه الطيب والمريح،والمُنساب مع تلك الملامح العفوية الأخاذة،وهي تسقط بعينين نَسريتين كل مايزوها من أنظار،كانت متروكة في إحدى زوايا التفريط وأركان النسيان، في مَعرض ،دلفه خلسة،ليراها هناك مُهملة ومَنسية، رغم كل مافيها من جمال.
تناولها بسرعة ووضعها على الحائط،وراح يُمرر عليها أصابعه، وهو يلونها من أعلاها لأخمص الأجنحة المكسورة على ظهرها،تلك التي عدلها بالقلم المرمي هناك وعادوا طبيعيين،فغمرهم بلون السماء،لقد سقط فيها وماعاد يستطيع مفارقتها،لكنه لايود سرقتها هكذا ،تذكر أنه ليس بسارق،أنه فقط يزيح الإهمال عن طُرقات الأشياء ،ليظهر منها ذلك الجمال القابع خلف تلك الستائر السميكة من العتمة،بقي يتأملها للحظات تلو اللحظات، وهي تَشخَص على اللوحة بهيئة غير تلك الهيئة التي كانت عليها قبل أن يُمرر عليها ألوانه،هي وأجنحتها وفرشاتها،المنتصبة في يديها،والأجنحة المشرعة على ظهرها كفراشة في حقول الطيران،ود لو يبقى أكثر،لكن الفجر كان قد أقبل ولابد من أن الرسام في طريقه لمعرضه،تسلل خارج من ذات الشقوق الجدرانية التي جاء دالفا منها،وهو يحمل في جيوبِ مُخيلته الكثير من نظراتها وجمالها العفوي البسيط،دخل غرفته الرمادية فهاجمته أنياب التفكير وهي تنغرس في عقله بغابية جنونية،استلبت دواخله وكل جزءٕ فيه، وهو يغور في تفاصيلها البسيطة والعفوية ببراءة طفل،ودهشة سجين مُقبل على الخروج،وهي تقيم هناك مُقيدة في اللوحة بجناحين،عدلهم وأصلح كسرهم وتلوينهم،حتى أنه اجزم بأنه لن يجد لوحة بهذا الكمال لولا العتمة التي وضِعت فيها،والجناحان المَكسوران.
التحف سريره وراح ينداح بأحلامه الغزيرة لكن سرعان ماأستيقظ على طَرقات مُريحة للباب ليست بالثقيلة ولا الخفيفة،بل لطيفة مُنسابة بمراعاة شاعرية عالية،هم يفتح الباب الذي لم يطرقه أحد،وربما لم يأتِ على بال أحد أو خاطره ابدا،سقطت يداه على مقبض الباب،فتحه ،لتنداح داخله ذات الفتاة التي لونها على اللوحة،لكنها أمامه واقعيا هذه المرة ..واقعيا ..واقعيا..راحت مشاعره ترتجف مُبتهجة..مُتعجبة..مِدرارة ..مُختالة وهو يراها تحمل في يديها فرشاة جدارية، راحت تَصطبِغ جُدران غُرفته الرمادية،باللون الزهري.
مها الفارس
العراق (edited)