انتهيت من قراءة الفصل الأول من رواية (مسبار الخلود) للأديب المصري شريف العصفوري (مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات-القاهرة2019) فأسرعت إلى مكتبتي أبحث عن الرواية التي أهدانيها الأديب العماني الصديق سليمان المعمري في أبريل2019 أثناء اشتراكنا في فعاليات ملتقى الرواية بالمجلس الأعلى للثقافة، وهي صادرة عن مؤسسة الانتشار العربي ببيروت الطبعة الثانية2014، فالروايتان تتخذان من الفانتازيا إطارًا لهما، والروايتان تستعيدان جمال عبد الناصر وعصره، بداية من اعتبار عبد الناصر نفسه شخصية روائية، ثم تسير كل رواية منهما، بعد هذا التشابه بينهما، في طريق مختلف.
لا تزال شخصية جمال عبد الناصر وأعماله مؤثرة في حياتنا السياسية والاجتماعية على المستويين المصري والعربي، وهو بحق رجل الأعمال العظيمة في أثرها، سواء كان هذا الأثر إيجابيًا أم سلبيًا، وسواء كان هذا التقييم بالسلب والإيجاب متفق عليه أم مختلف عليه حسب انتماء وزاوية نظر من يُقَيِّم، لذلك لا نستغرب استدعاء الروائيين لهذا العصر وأحداثه، وإعادة النظر فيه وتحليله، لأن به الجذور القريبة والمهمة التي تحرك الكثير من أمور حياتنا الحاضرة، لكن العصفوري والمعمري لم يكتفيا بالكتابة عن العصر بل استدعيا عبد الناصر نفسه وحولاه إلى شخصية روائية فكيف تم ذلك؟ وما الذي حققاه بهذا الاستدعاء؟
افترض سليمان المعمري أن جمال عبد الناصر يحق له العودة إلى الحياة وزيارة الأحياء شرط أن يكونوا هم من يستدعونه، وشرط أن يكون المستدعي من كارهي عبد الناصر وليس من محبيه، يقول حارس قبر عبد الناصر له:(الأعداء نادرا ما يطلبون عودة أعدائهم إلى الحياة، ولهذا يتم التساهل في الموافقة على طلباتهم بغية غسل القلوب من الأدران ونشر التسامح في الأرض)ص12. كان ذلك في ذكرى مرور ستين عاما على قيام ثورة 23 يوليو1952 التي قادها جمال عبد الناصر لإسقاط الملكية بمصر، وكان قد مرّ على وفاة عبد الناصر اثنان وأربعون عاما.
كان عبد الناصر يريد أن يري مصر بعد ثورة 25 يناير2011، لكن القانون لا يسمح له بذلك، كان حزينًا جدًا فتعاطف معه الحارس، لأن هناك قانونًا آخر ينص على أن (من يُسعد طفلًا في حياته لابد أن يجد من يسعده في قبره)ص13، وقد أسعد عبد الناصر طفلًا اسمه أحمد زويل أرسل له رسالة (ربنا يوفقك ويوفق مصر) فرد عليه عبد الناصر وشكره داعيا الله أن يحفظه ليكون عدة الوطن في مستقبله الزاهر، وقد حصل هذا الطفل فيما بعد على جائزة نوبل في الكيمياء. قلب الحارس في الدفاتر فوجد (رجلًا ما زال على قيد الحياة يكن لك كراهية شديدة لدرجة أنها لو وضعت وحدها في كفة ميزان ووضع بُغض جميع الناس لك في الكفة الأخرى لرجحت كفته… إنه مصري، ولكن يقيم في عُمان.. سنسمح لك بخروج مؤقت من القبر لزيارة هذا الرجل. إن استطعت أن تسل من قلبه ولو 1% من حقده الشديد عليك فستكون مكافأتك العودة إلى مصر حيًا معززًا مكرمًا)ص14و15. يذهب عبد الناصر إلى شقة الرجل الذي يكرهه واسمه بسيوني سلطان، يعمل مصحح لغة عربية بصحيفة عُمانية كبرى، يرى بسيوني عدوه فيغمى عليه وينقل إلى المستشفى ليظل في غيبوبة لعدة أشهر من دون أن يعرف أحد سببها، وتكون هذه الغيبوبة هي فرصة الروائي سليمان المعمري ليترك أبطال الرواية يتحدثون عن أنفسهم في مواجهة بسيوني سلطان، ابنه، صديق ابنه المختلف مع الأب سياسيًا، زملاء الجريدة، رئيس تحريرها، زوجة رئيس التحرير التي تعمل عضو اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، وبسيوني سلطان نفسه يتحدث في فصل يخصه، ويكون عبد الناصر خلال هذه الفصول مجرد شبح، مجرد مثير روائي أدى إلى الغيبوبة التي أدت إلى انفجار حكائي اعترافي حميم، يظهر فقط في الفصل الأخير الذي يتكون من نصف صفحة ليكرر الفصل الأول ولكن في ذكرى مرور ستة آلاف عام على قيام ثورة يوليو، ليعود القارئ إلى الفصل الأول لاستكمال الحوار بين عبد الناصر والحارس بانتظار زيارة جديدة لعدو آخر.
أما شريف العصفوري فيجعل عبد الناصر نفسه هو الراوي باسم أحمد جمال، يجعله مؤسسًا للشركة المتحدة هو وبعض رفاقه وأهمهم: عبد الواسع عميرة (عبد الحكيم عامر) وإسماعيل أنور (أنور السادات) وجابر (حسني مبارك). للوهلة الأولى يبدو ما فعله شريف العصفوري ترميزًا ساذجًا استُخدم كثيرًا من قبل، لكن توغلك في الرواية يوضح لك أنه فعل ذلك ليقدم بناءً روائيًا بالغ التعقيد، من أجل إتاحة تشريح روائي سياسي اقتصادي اجتماعي ذي صبغة ديمقراطية يقدمه جمال عبد الناصر بنفسه. فالراوي أحمد جمال يتحدث عن الشركة/ الثورة/ مصر وما تم فيها من صراعات، وما قامت به من أعمال مجيدة وأعمال حقيرة، بأسلوب اعترافي لرجل يعيش أحداث ثورة 25 يناير2011 وكان يجب أن يموت سنة 1970 (وكأن رغبة عبد الناصر في رواية المعمري تحققت في رواية العصفوري!)، لولا أن وافق على تجربة علاج سري يمنحه الخلود، هذه الفصول هي السيرة الذاتية لعبد الناصر، عائلته، علاقاته الشخصية، أفكاره، علاقاته مع زملاء الثورة، الانقلابات الداخلية والخيانات، تشريح حقيقة كل منهم كما هي في الواقع وليس كما أريد لها أن تكون في الكتب المدرسية إلخ، ولكون الراوي هو أحمد جمال فإنه يتحدث بالتوازي عن مصر وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وثورة يناير إلخ محللًا المعلومات المعلنة وموضحًا وجهة نظره فيها، ما حدث وما كان يجب أن يكون، ولا يكتفي الروائي بذلك، لكنه يضع عدة فصول تبدو وكأنها خارج السياق، أو يمكن حذفها من الرواية من دون أن تؤثر فيها، لكنها في الوقت ذاته تمنح الرواية بنيتها المعقدة وعمقها التاريخي وتكمل الظلال المعتمة للصورة التي يرسمها أحمد جمال (اعترافت الشتاء ص65 على لسان الأميرة شويكار الزوجة الأولى للملك فؤاد والد الملك فاروق الذي أطاح عبد الناصر بحكمه- اعترافات الربيع ص129 عن الملكة نازلي أم الملك فاروق وفضائحها التي كانت أحد أسباب زوال حكمه- اعترافات الصيف ص185 عن جيهان السادات الزوجة الثانية لأنور السادات- اعترافات الخريف ص257 التي تتحدث عن الاغتيالات في المستويات السياسية
الرئيسية ⁄ إبداع ⁄ ماذا لو قرأ عبد الناصر شخصيته روائيًا؟ الجزء الأول بقلم : منير عتيبة… صاحبة الجلالة
إبداعمقال