لا تصالح
بتلك الصراحة قرر امل دنقل القادم من بلدة القلعة جنوب الصعيد مشبع بكل ما اقتبسه عقله من مكتبة والده الحاصل علي العالمية وهي اعلي الدرجات العلمية بالازهر الشريف ،ولكن السؤال المدخل : كيف يمتلك رجل امتصت عروقه مياه السلفية لينتج من رحم الاتباع تمردا وثورة زادها الحرية حتي لو اقتضي الأمر بالتضحية بالذات كقربان للحلم .
هذا النداء قابل به مساحة التصادم بين ممارسات تجهض الحلم الذي نادت به مصر الستينيات وغناه المجتمع فصار حلما قتل في ١٩٦٧ ،ليكون الاستدعاء التاريخي لزرقاء اليمامة ،وكذلك لا تصالح وكلاهما من أبطال حرب البسوس التاريخية ، مساحة التقابل مابين الحلم المهدر علي أعتاب الصراع كما في ابطال الملحمة حيث كان سعيهم الي حتفهم علي الرغم من صرخات المحبين ،هنا يتحقق الوجود المجازي لزرقاء اليمامة في صرخات المثقفين المصريين بدءا من ثرثرة فوق النيل وشيء من الخوف وغيرها ،وكذلك تصبح زرقاء اليمامة عنصر قابل للتداول حيث لا تعدم ، تلك الأمة حكامها ولكنها تعدم اعتبار حكمائها وقت لا ينفع الندم ،وكذلك يراهن امل دنقل علي ان الجمع هو الباقي رغم غياب الأفراد الذين لا يكتسبون قيمتهم الا بالتعبير عن روح المجموع هنا تصبح لغة التعبير عن الذات ،ويتبدي ذلك في عمله الرائع مقتل القمر ،حيث جسد امل دنقل حلمه الذي تجسد في جدلية الصراع مابين الحلم والواقع مع تكرار نموذج إنساني سابق من خلال نمط العشق الذي نمارس تجاه أبطالنا الذين يسوقون أنفسهم لمذبح الوطنية دونما حسابات الموت حيث يكتسب الجسد صفة المعبر للخلود .
القمر هنا كمعطي حضاري تتناوب دلالاته لدي متلقيه حيث تعددت الاستجابات لموته ، فمن لص نهب القيادة حال موته ،ومن ذكريات المحيطين بالقمر حيث تتذكر محبة انست لسماعه اغانيها دونما قتل لأحلامها كما مارس واقعها معها وكأن التواصل الإنساني ونعمة التعبير الحر عن طموحات الذات قد افتقدها المبدع والواقع وقتذاك حيث التعبير في اتجاه نزق البطل الدرامي في السعي نحو حتفه، لأنه ليس الموت هو قدر الحلم حيث الاخر هو تلك المتكأة التي ترحم ضعفنا ،ولعل تلك أزمة البطل التراجيدي الذي مثله امل دنقل نفسه حيث جاء ثلاثة هم يحي الطاهر عبدالله وعبدالرحمن الابنودي وأمل دنقل ،انداح الأول في استرجاع تراثه ليقدمه للعالم حتي من خلال عدوداته التي سمعها من جداته فلم يستوعب ذلك الواقع تلك المساحة من الحزن التي لم يحتملها واقع الترفيه المقدم عبر المدينة الغير مهمومة بصيغة الريف غير المقدم في السينما ذلك الذي صيغ لإراحة المدينة من ثقل الذنب حيث تضخمت رفاهيتها علي حساب صمت الريف ،وكذلك ادراك الابنودي لعدمية المشهد الحالي فقرر الالتحاف بالجانب الخفيف من المشهد حيث الصعود دون التزامات ،وبقي امل دنقل كجدارية تعكس تشققات الروح الغير متوافقة مع سيل الانهيارات في اتجاه المجد الزائف.
المجد للمجموع/ الشعب ذلك الرهان الذي انكسرت دعائمه عندما غابت زرقاء اليمامة / المثقفين عن المشهد، ومع ضبابة الواقع من خلال غياب القمر كعاكس للرؤية، حيث صدم الشاعر / الفرد بموت القمر في المدينة صاحبة القلب البارد والكامنة في تفاصيل المشهد الاستهلاكي، الذي سخر من براءة القادمين من عمق الريف المصري والذي مارس فلسفة التعامل الراقي مع التغيرات الحقيقية التي تأخذها التطورات الفعلية للحدث ،ومع تفاوت إيقاع الزمن وكلاسيكية الحلم، كان لزاما علي ذلك الجيل من صلاح عبد الصبور واحمد عبدالمعطي حجازي وغيرهم كثيرون .
حيث طار العاشق الذي شهد موت القمر للريف المصري ،هنا حيث الظرف التاريخي لإنتاج ذلك الخطاب الشعري عند امل دنقل ،هي تلك الفترة التي شهدت تحولا جنينيا لقتل حلم العرب وتعميق الاحساس بالهزيمة ومغازلة المهزوم للمحتل من باب التوحد مع القاهر ، هنا تكون دلالة رد الفعل من أبناء القمر صانعي ذلك الحلم والذين اكتسب منهم القمر شرعية وجوده ،وكأن صرخة امل دنقل في تفجير أزمة واقعه ، حيث يري اننا قادرون علي غزل نجمنا من ضوء القمر ،وكما صنعنا نجمنا الأول قادرين علي صنع نجومنا التالية ، هنا يتضاؤل الفرد حتي القادر علي طرح النبوءة فمجال الرؤية ومفرداتها تكتسب شرعيتها من مدي تقبل العقل الجمعي لها ، ولعل صرخة امل دنقل باستدعائه لزرقاء اليمامة كمحاولة لتجسيد أزمة المثقف أمام طوفان الحلم ، حيث المجموع يسبق الفرد ،ولعل أزمة المثقف المصري وفق المنظور الجرامشي لدور المثقف في واقعه حيث أزمة الحزب الشيوعي في واقع استهلاكي اوروبي وبالتالي الخضوع لجدلية الواقع بدلا من الاصطدام تحت وطأة حتمية النظرية:
ورددوا/ قتل القمر / ولكن ابونا لا يموت / ابدا ابونا لا يموت .
وهو جدل ثار حول العرب بعد عبدالناصر حيث كان محور سياسة العرب ومن هنا كانت أزمة ٦٧وضرورة تعظيم الازمة للقضاء علي مفردات عصر عبدالناصر ،ذلك الأمر الذي حرك وعي امل دنقل في صياغته لمقتل القمر .
ولكن امل دنقل ذلك الذي راهن علي وعيه حيث بحث عن تمحور فكرة علاقة المثقف بالسلطة وهنا مناط التقييم في الأدب السياسي حيث ابقاء التعبير عند مستوي متقارب مابين المباشرة والدلالة وهو امر شفع لأمل دنقل مع استدعاء ابي نؤاس، حيث التسلسل من تقنية اللعب ( ملك ام كتابة ) وتلك اللعبة التي اصطنعها الشعب المصري والتي تعكس فلسفة الاختيار وكذلك دلالة مفردات اللعبة ،حيث اختار صاحبه صورة الملك ومال لها بينما اختار هو الكتابة بمدلولاتها التي أبرزها شعرا :
كان نقش الكتابة بارزا في صلابة / دارت الأرض دورتها/ حملتها الشواديف من هدأة النهر / ألقت بنا في جداول الغربة/ قطرتين التقيتا علي سلم القصر ..ذات مساء وحيد / كنت فيه نديم الرشيد ! / بينما صاحبي يتولي الحجابة.
لغة المواجدة عند امل دنقل جاءت مع كثافة استدعاء ابي نؤاس كشاهد علي تناقضات عصر تهاوت فيها الحضارة العربية في العصر العباسي الثاني ،هنا فلسفة التوحد للقهر عبر المفردات الواردة في اللوحة الثالثة حيث استحضار كلمة ( خارجي ) الملاءمة لطبيعة العصر المستدعي منه البطل تاركا للقارئ استخلاص الكلمة المقابلة لها في الواقع حيث كانت بصيغة في ستينيات القرن الماضي تغيرت في الوقت الحالي وكأن التابو قد تم إيجاد معادل سلطوي في الواقع ، علاوة علي التكثيف الدرامي لمشهد اعتقال اب البطل وكأن الرهان المطروح هو تاريخية الظاهرة مع مهارة الاختزال وتكثيف الدلالة :
ومضوا بأبي / تاركين لنا اليتم ..متشحا بالخرس .
استنهاض التاريخ عند أبي نؤاس هو نوع من عصرنة الخطاب التاريخي واستدرار الخالد منه كقيم تم ترسيخها في عقل العرب ، تلك العصرنة التي تبدو في الورقة السادسة :
لا تسألني ان كان القرأن / مخلوقا….أو ازلي/ بل سلني أن كان السلطان / لصا ….أو نصف نبي ! !
جاء إبداع امل دنقل عبر مسار الحرية باحثا عن متوالية الحرية داخل الذات ،حيث قدرة الذات علي استيعاب الحلم القادم من أرض بكر لأرض أدمي فيها الحلم تحت وطأة الصراعات ذات البعد اللاهوتي ،هنا تتوافق الذات مع العالم الخارجي حيث يصبح الحلم مأزق يستقطع من بنية الذات .
تبقي اللغة عند امل دنقل مستويان متوازيان ،اولهما تاريخ متحرر من موروثه الذي قيده والذي أراد دنقل ان يعيد صياغته وفق البعد المفقود وقتذاك تحت وطأة التسجيل الرسمي لذلك التاريخ .
ثانيها: طرح ازلية أزمة الحرية علي الرغم من ثراء النصوص النظرية التي تناقض الممارسة ، هنا استجلاء أزمة ذلك الجيل الممزق مابين حلمه المهزوم والنزق الطاغي علي الروح حيث مفهوم الشقة في التراث وكأنه يعيد الاعتبار للمستبعد عبر التاريخ عل روحه تهنأ في علياءها
بهاء الصالحي