إذا كانت القصة القصيرة عند رولان بارت كما قال بعد توقف عن الكتابة لسنوات ما هي إلا صورة مصغّرة للرواية بمعنى أنها لم تعد فقط تلك التي تشتمل على وحدة الزمان والمكان والحدث والشخصية والتي تبدأ بالتسلسل الحكائي من بداية ووسط ونهاية، وحيث يتعقّد الحدث كلما توغلنا في القص حيث العقدة ثم لحظة التنوير، بل لم تعد القصة بأركانها المعهودة الزمان والمكان والحدث والشخصية والحبكة والصراع والدراما والعقدة والنهاية المفاجئة التي تعتمد على الدهشة، وأصبحت القصة أكثر تعقيدًا وانفتاحا كأن تشمل مشهدًا أو حالة نفسية أو منولوجًا أو حلمًا أو كابوسًا أو تيار وعي يكون السرد وعمود الحكي فيه هو الأساس دون اهتمام بالبداية أو الوسط أو النهاية ودون تسلسل زمني حيث اللاوعي واللامعقول وقصة اللاقصة، وما نسميه الكتابة عبر التوعية وتداخل الأنواع والأجناس الأدبية، ومع ذلك وبالرغم من كل ذلك تظل القصة هي الحكاية، ومن قصّ حكى، اكتب ما شئت وغير كما شئت وجدد واصعد وحلّق وتفلسف وغُص ولكن عينك دائما على السرد والحكاية، ربما طالت مقدمتي والتي لا تشير إلى النص الذي نحن بصدده إلا في العموم.
نحن هنا في أقنعة السعادة كعنوان وعتبة للنص والتي تتكون من مبتدأ مضاف ومضاف إليه وهناك خبر صفة – محذوف قد يكون الزائفة وقد يكون الذهبية على العكس – وإن كان النص قد ذهب إلى معنى القناع وهو ما يرتديه الإنسان ليواري به وجهه وملامحه، وقد يكون في حفلة تنكرية أو ارتكاب جريمة!!
ومع اتساع الغرض الذي يُستعمل فيه القناع .. والذي قد يكون معنويًا .. بأن تعبر بوجهك وأسلوبك بما يعكس غير ما تُبطن داخلك من خير أو شر، من فرح أو حزن.
وحتى لا نستطرد؛ نذهب إلى البداية السارد البطل بحديث الأنا الذات، وهو أحد أبطال النص والذي قد يكون الضمير، وقد يكون الحكم كما نصب نفسه رغم أنه مستلب هو الآخر وحكم على نفسه بأنه مستعبد من هاتفه المحمول “ونيسي البغيض” أي أن مستلبًا أسيرًا لعالم محموله بما فيه من زيف نصّب نفسه حاكماً وضميرًا أخلاقيا يشارك ويفرح ويحزن لأصدقاء طفولته الذين التقاهم فجأة وصدفة مرتبة من المؤلف في آخر يوم لتقديم إقرارات الضريبة العقارية لينتحوا جانبًا من الزحام ويتناوبوا آخر ما في حياتهم.
من عادل محمد الخمسيني الذي يكتب عن سعادته الأسرية في صفحته على الفيس بوك يذهب ليقابل الأمريكية التي أحبته وتصر على الزواج منه وهو يرفض خوفًا على انهيار أسرته لا حبًا لهم كما يصور في الفيس بوك..
وهذا صلاح أسامة المهندس الذي يهوى كتابة الشعر، ويحب زوجته الملهمة وولديه، يذهب إلى الإسكندرية للقاء زوجة طبيب سافر لحضور مؤتمر دولي، نلاحظ سفر الأول إلى القاهرة والثاني إلى الإسكندرية والثالث الخمسيني الذي ماتت زوجته، وبعد عشر سنوات أحب، واتفق على الزواج، إلا أنه عرف أن حبيبته أصيبت بالسرطان؛ فقرر أن يتراجع عن الزواج بها وإسعادها ما بقي من أيام حياتها؛ لكي ينجو بنفسه!
تلك الأنانية وحب الذات للأصدقاء الثلاثة بأقنعتهم على الفيس بوك الذي نحمله استلابنا والدفع بنا في عالم الأقنعة، ولم لا نقول إنه الذي كشف عُرينا، ونفاقنا الاجتماعي، وأعطانا الفرصة كي نمارس الهروب والتخفي والفساد والشيطنة على العباد، ناهيك عما له من أدوار أخرى كشفتها ألعاب السياسة والحروب وأنه أصبح قيدًا على آرائنا ومعتقداتنا يسمح بما يسمح به سادته.
ما يميز هذا النص الذي اتخذ سردية الأصدقاء الأربعة ليدلل على مدى استلابنا والذي بدأه البطل بالسطرين الأولين كما أشرت آنفًا وبالنص ” جلست بصحبة هاتفي المحمول، ونيسي البغيض، سجّاني الذي استعبدني؛ فصرت لا أقوى على تركه رغم يقيني أنه اختطفني من حياتي الهادئة، تلك الماشوسية التي يعاني منها أغلب المستلبين؛ أي أنه آلة إعلامية جبارة تصوغ العالم وتوجهه، بل وتقيد أنشطته وأفكاره، وتذهب من الفيس بوك إلى منصة إكس حيث ترى بوضوح ما لهذه التطبيقات من آثار واضحة في دعم طائفة على حساب أخرى.
نعود إلى الحكاية التي دلل بها المؤلف في نصه الفكري، الذي يعتمد الفكرة، حيث نص الفكرة والاستلاب من الإعلام، وما قصّه الرفاق الثلاثة، إلا دليل وتأكيد قد يذهب في تفاصيل وحوار زكي .. لكنه تحصيل حاصل للفكرة المسبقة لإدانة الأصدقاء الثلاثة، الحوار الذي طال في قصة قصيرة لإقناع صديقه الذي تخلّى عن حبه رغم تمنيه لسماع صوتها، وأخذ موعدًا مع حبيبته لينهي الخطبة !! تُرى ماذا يقول لها من مبررات !! سيرتدي دون شك قناعا يخاطبها به ، ربما ادعاء مرضه هو نفسه!!
ما زلنا في قصة الفكرة .. في ثلاث قصص لا قصة واحدة .. وكأننا في متوالية قصصية .. فصل المؤلف على لسان الصديق الرابع الذي سبق وقلت ربما كان هو الضمير !! فصل المؤلف قصة الثاني والثالث وأفرد لهما حوارً ومحاكمة تفصيلية تكاد تكون خطابًا أخلاقيًا عالي النبرة بما نسميه الميتاسرد الذي يبالغ فيه البعض، لكن المحترفين يدفعون إلينا بالسرد في المونولوج وتيار الوعي كي يكون مستساغا.
نعود لقصة عادل والتي كان يمكن أن تكون وحدها بجوارها الجدلي بين الصديقين أو حتى بين عادل وضميره ليقنع نفسه، وحكاية استعراض زوجة القنفذ، وحكاية صحيفة الوطن، كما لو أن المشكلة أو المانع هو الفضيحة، سواء برفع قضية في حكاية عادل !! أو إعلان مريضة السرطان، أو قتل الأصدقاء الثلاثة – في نهاية النص – بعد اختفائهم والذي قد يكون في حادثة بعيدًا، ويا لسخرية القدر، عما قصد إليه المؤلف السارد بلسان الأنا، ولا أعارض أن يكون النص مفتوحا سواء في الفكرة والدلالة والرمز، وطرائق السرد وتعدد مستوياته، بالمونولوج والحوار والتصاعد الدرامي، والنقلات الزمكانية، إلا أن تعدد الأغراض والرؤى مع اختلاف أسلوب السرد وكثرة التفاصيل التي غالبًا لم تأت بجديد أو مدهش للقارئ ..
ربما كان العصف الذهني الذي أراده المؤلف في حوار الأصدقاء الثلاثة الذين ضاق بهم المكان فخرجوا للشارع، كان استعراضا للفكرة لكنه كان في نطاق المألوف الأخلاقي.
لا يجب أن نبتعد عن عنوان القصة، الأقنعة الزائفة المنافقة، والتي تحدثت عنها آنفًا، والتي تدين استلاب الميديا الجديدة لنا، كما أنها تدين تصرفاتنا مع من نحب أي السلوك الاجتماعي بصرف النظر عن السعادة المدعاة في الصور والمنشورات على الصفحات .. هذه ثانية أرى أن انتهت بانتهاء اللقاء .. وما أراده المؤلف قد وصلنا وزيادة بالنص الذي طال في حواراته ومبرراته أعلاه، وأن عودة السارد إلى تساؤلاته مع نفسه ليست بالضرورية ولم تضف إلى النص، بل كانت تكراراً .. بإصرار المؤلف على ألا يترك مساحة للقارئ الذي يعيد إنتاج النص ربما بنهايات أخرى كما أسلفت.
عندما تسيطر الفكرة على النص ويسيطر الخطاب الأخلاقي يصاب النص بالجفاف ويقل ماء السرد وحيويته.
تلك التفاصيل المرتبطة بالإقرار الضريبي والمكان والأوراق وتدخين المسنين وسعالهم في قصة واقعية حتى مع الأقنعة الزائفة والفيس بوك الذي يحرك الخيال وهو عالم حقيقي رغم كل التجاوزات التي عبرت عنها في أحد دواويني، “ماذا فعلت بنا يا مارك؟!” حين كتبت:
“المشكلة في الفيس بوك أنه ساوى بين الشريف والخسيس، وخلا المواطن الغلبان بلطجي، والفسل والألعبان والأونطجي، اللعنة على الفيس بوك، فقد جعل ممن لا يعرفون أبجدية الحياة فلاسفة وفحول شعراء، ومن عوانس الوقت الضائع نجمات للفضاء الإلكتروني، الفضاء الذي ساوى بين كلب وصاحبه، وبين فريسة تتسكع على رصيف الفراغ وصياد محترف، وبين راقص باليه وجلف يقضم أظافره ويحك رأسه بمخالب قرد لزج”. (٢٦ يناير ٢٠١٤).
بالتأكيد هنا انتصاف للمرأة ومظلوميتها مع الرجل، المرأة الزوجة والحبيبة، وقهرها بالخيانة، والتهرب من المسؤولية وهو ما يؤكد أن الأدب النسوي ليس شرطًا أن يكتبه رجل، وقد قتلت هذه القضية بحثًا. المرأة التي لم يفكر الزوج في ماذا يدور بخلدها وهي لا تريد سماع خطابه المكرر عن نفسه وتتصنع النوم، يسأل الراوي عادلا :
وهي التي ربما صُدمت فيه ولم يكن هو الزوج الذي أحبته!
الحوار هنا أقرب إلى الحوار المسرحي في مشهدية ظاهرة وغالبة، وكما أشرت في المقدمة إلى تداخل النصوص وتلاقحها.
لم أتحدث عن اللغة الطيعة، الأقرب إلى لغة الرواية المسرحية، التي تخدم الفكرة الطاغية والحوار الموظف، والذي بدأ في خطابه الأخلاقي عالي النبرة، وتلك سمة النصوص الواقعية النقدية.
تحية للكاتب الذي لعب على أكثر من تيمة وفكرة، وحشد كثير من الوقائع التي يعاني منها واقعنا الرث.