قد يعد اختيار الشيخ “نعيم قاسم” أمينا عاما لحزب الله تطورا مثيرا ، وقد يبقى “قاسم”ـ حماه الله ـ فى منصبه الجديد طويلا ، أو تسبق إليه يد الغدر ، لكن لا “قاسم” ولا غيره ممن قد يخلفه ، يستطيع أن يملأ فراغا هائلا تركه استشهاد السيد “حسن نصر الله” .
فلم يكن “نصر الله” مجرد أمين عام لحزب الله ، وقد سبقه إلى العنوان ذاته الشيخ “صبحى الطفيلى” ، وخليفته السيد “عباس الموسوى” ، وكان الأخير صنوا ورفيقا للسيد حسن فى مقام حملة العمائم السوداء ، وولد كلاهما من النسل النبوى الشريف ، ومن أحفاد الإمام الحسين سبط النبى الأكرم (ص) ، ومن حفظة عهد الشهيد “الحسين” ، فقد ذهب الحسين جسدا ، لكنه بقى ذكرا وأبدا ومثالا باهرا للإسلام النقى عند ينابيعه الأولى ، وهكذا كان “عباس” ، الذى استشهد مع زوجته وأطفاله بصاروخ قاتل من طائرة هليكوبتر إسرائيلية فى 16 فبراير 1992 ، ولم يكن مضى على توليه منصبه سوى شهور ، وقتها جاءوا بالسيد حسن من رحلة التعليم الدينى الثانية فى “قم” ، وكان “عباس” قد رافق وأرشد ورعا “حسن” فى رحلة التعليم الدينى الأولى إلى “النجف الأشرف” ، ولم يكمل السيد حسن تعليمه الدينى إلى نهايته فى الرحلتين ، فقد دهمته مطاردات السياسة فى العراق ، ثم نادته استدعاءات السياسة فى حزب الله بعد رحيل السيد عباس ، وأجمعوا على اختياره أمينا عاما فى مجلس الشورى ، رغم أنه كان وقتها الأصغر سنا فى القيادة ، كان اختياره وفاء للشهيد عباس ، وتوقيرا لصحبة جمعتها فى طلب العلم وطلب الشهادة ، كان عمر السيد حسن وقتها 32 سنة ، وقضى فى قيادة الحزب مثلها ، وإلى أن كان استشهاده فى سن الرابعة والستين ، أرادت له أقدار الله ألا يكمل تأهيله العلمى الدينى ، وكان كثيرا ما يعبر عن ألمه فى هذه النقطة ، وإن كان وجد فى سيرة السيد عباس دليله الشخصى ، كان السيد عباس إبنا لبيئة شيعية لبنانية متفتحة ، وعابرة للاختناقات والتحوصلات الطائفية ، وساعية لوحدة المسلمين ، ومتأثرة باجتهادات المرجع “آية الله حسين فضل الله” ، الذى حرم مبكرا سب الصحابة والسيدة عائشة ، وحرم العدوان على سيرة الشيخين “أبى بكر” و”عمر” ، وفى فيديو نادر حفظ كلمات للسيد عباس ، أشاد فيها بالخليفة الثانى “عمر بن الخطاب” ، وفتح “القدس” فى عهده ، وتجريمه العدوان على الكنائس والأديرة ، ورفضه الصلاة فى كنيسة القيامة ، حتى لا تكون سنة عدوان للمسلمين من بعده ، واستن “العهدة العمرية” الخالدة فى مجرى الضمير الدينى ، وتوقير الانبياء المعصومين جميعا دون تفرقة بين أحد منهم ، لم يكن “عمر بن الخطاب ” فقيها متبحرا كالإمام “على” ، وكان كثيرا ما يقول “أصابت إمرأة وأخطأ عمر” ، وكانت خشيته الباكية لله وازعه فى كل تصرفات خلافته ، ولم يكن السيد حسن قد بلغ مبلغ فقه دليله السيد عباس ، لكنه كان صنوه وتابعه على طريق وعقيدة “الإسلام الفلسطينى” إن جاز التعبير ، وهى عقيدة لا تلتزم بدول ولا بحدود صنعها الاستعمار فى (سايكس ـ بيكو) وما بعدها ، وتقدس “القدس” ومسجدها الأقصى ، كما تقدس مكة والكعبة وقبر الرسول الأعظم ومرقد الإمام والمسلم الأول “على ابن أبى طالب” ، وتفهم أن ما جرى فى الفتنة الكبرى ، لم يكن خلافا على الإسلام بل فيه ، وكما قال الإمام “على” نفسه ، فلم يكن الأمر خلافا فى عقيدة التوحيد الإلهى ، بل كما قال الإمام فى حومة الوغى “لقد التقينا وربنا واحد ، ونبينا واحد ، ودعوتنا إلى الإسلام واحدة” ، بل كان الخلاف فى التاريخ والحكم والعدالة والسياسة ، ومع تدهور القرون ، التبست الأصول وبهتت وبليت معادنها الأولى ، وزاد ثقل الأساطير وركام التخاريف ، وعميت الأبصار ، وبدا الأمر كما لو كان فراقا فى أصل الدين نفسه ، وكان السيد حسن واعيا بما جرى من آثام المغالين ، ومحذرا من استخدام الغزاة لهم كمعاول هدم وفتنة وتفريق ، وكان تأثيره الكاريزمى أقوى فى ناسه “الشيعة” من أثر المراجع وآيات الله ، وإن لم تخل أحاديثه من تواضع نادر ، كان يقول “أنا مقلد ، ولست مرجع تقليد” ، وكان التعبير فى معرض بيان انحيازه لوحدة المسلمين ، وتأكيده على تقليده الدينى لمرجعية “الولى الفقيه” الإمام الخمينى والإمام الخامنئى من بعده ، واختار التركيز على تحريم شتم الصحابة والخلفاء الراشدين ولعان السيدة عائشة رضى الله عنها ، ثم كان فهمه الناضج لما جرى فى صدر الإسلام من انحيازات دنيوية لا دينية ، وانحيازه هو الآخر لسيرة آل البيت وسادتهم الشهداء الأبرار ، وكان ضنينا بعظات دم الإمام الحسين ، أن يجرى امتهانها فى عادات وطقوس مبتذلة ، وانتقد جرح الصدور وإسالة الدماء بشدة الحزن على النهاية “الكربلائية” لسيد شباب أهل الجنة ، وكان يقول ما معناه ، وفروا الدماء واذهبوا بها لتحرير فلسطين ، كان واجب الوقت دليله الدينى ، ولم يكن ذلك سهلا على الإطلاق فى بيئة الطوائف اللبنانية ، ولا فى الصيغة المريضة لحكم لبنان ، ومع كل هذا التعقيد المقعد ، الموروث منه والمستجد ، كانت مهمة السيد تبدو مستحيلة .
وعبر 32 سنة من قيادته لحزب الله ، وقد كان من مؤسسيه الأوائل ، خاض السيد حسن معارك وملاحم كبرى ، وقفز بجماعة المقاومة الصغيرة إلى جيش تحرير حقيقى وجاد ، وخاض الصدامات الكبرى مع جيش الاحتلال الإسرائيلى ، من معركة 1993 إلى معركة 1996 ، وإلى تحرير الجنوب اللبنانى كله أواخر مايو 2000 ، ومن دون توقيع صك استسلام ولا اتفاق تطبيع ، وإلى حرب 2006 ، التى كانت إلى حينها الحرب الأطول زمنا من نوعها ، ولم يكن الرجل يؤمن بدعاوى لبنان المعزول أو لبنان المحايد بضعفه ، بل جعل من “حزب الله” أكبر خطر وجودى إلى الشرق على كيان الاحتلال الاستيطانى “الإسرائيلى” ، الذى أراد ويريد ضم أجزاء واسعة من لبنان إلى كيانه الاحتلالى ، وفعلها فى حملات غزو همجى تعددت فى 1978 و 1981 و 1982 ، أى قبل ظهور “حزب الله” نفسه ، وقبل الزحف الإيرانى إلى دور إقليمى بعد ثورة الخمينى ، وكان السيد حسن صادقا مقنعا صريحا ، وقالها مرات بوضوح قاطع ، قال أن “أكل وشرب وسلاح حزب الله يأتى من الجمهورية الإسلامية فى إيران” ، كان صدق السيد حسن علامته وآيته وطريقه إلى قلوب الناس ، وكان صادما لأصحاب المصالح والأهواء ، وكان صدقه عن الدعم الإيرانى الحصرى من عناوين اللحظة التى ولد ونما فيها “حزب الله” ، وشهدت خذلانا مخزيا شاملا من كافة الكيانات العربية لمعنى المقاومة وجماعاتها ، وقد رآه الرجل بأم عينيه ، وقت أن كان شابا لايزال ، ولم يكن من بديل عنده ولا عند غيره عن الدعم الإيرانى المستعد ، إن أراد أحد أن يقاوم هذه “الإسرائيل” ، وصحيح أن إيران دولة لها مصالحها وأولوياتها وتداعيات نفوذها المتضخم فى المنطقة ، بل فى الروح الطائفية التى نفخت فيها من نارها ، وإن كانت تمددت فى خلاء عربى موحش مخيف ، وأوقعت السيد حسن نفسه فى أخطاء وخطايا سحبت من وهج قيادته ، وأفقدته تعاطف قطاعات واسعة فى المشرق العربى المحطم بالذات ، على طريقة توريط “حزب الله” فى المستنقع الطائفى وحروبه النتنة ، كما جرى فى العراق وسوريا مثلا ، وكان ذلك مما خدش ـ ربما شرخ ـ صورة الحزب وزعيمه التاريخى ، لكن الرجل للإنصاف ، ظل مع ما جرى من نفاد أرصدة ، ظل الزعيم السياسى الأكثر تأثيرا فى ضمائر العرب العاديين ، فلم يتح لأحد منذ رحيل القائد الأعظم جمال عبد الناصر ، أن يهتم العرب بالاستماع إلى خطاباته ، كما جرى فى سيرة السيد ، الذى ظل قادرا على عبور حدود الطوائف والأقطار ، واستعاد مع “طوفان الأقصى” الفلسطينى كثيرا من تألقه الأقدم ، وكثيرا من انجذاب الناس إلى كاريزميته وبلاغته ومصداقيته ، وحتى إلى “لثغته الرائية ” المحببة ، وكانت حساباته هذه المرة محررة من كل قيد ، رغم أنه لم يحط بعلم مسبق عن خطة “حماس” وأخواتها انطلاقا من “غزة” ، ولم تعلم إيران هى الأخرى ، وكان بوسعه التنصل من الأمر كله ، غير أنه لم يتنكر أبدا لإيمانه الفلسطينى ، ووسع فى هوامش استقلالية قراره عن الاعتبارات الإيرانية ، وأدخل “حزب الله” فى حرب مع كيان الاحتلال ، تطورت وقائعها الدامية من “حرب إسناد” لغزة إلى حرب وجود “إسرائيلى” مع حزب الله نفسه ، وظل الرجل ثابتا راسخا على اختياره إلى ساعة استشهاده ، وترك وديعته إلى “حزب الله” من بعده .
[email protected]