الرئيسيةأخباربين العقل والنقل بقلم /عوني عبد الصادق علي .. روائي مصري …موقع صاحبة الجلالة
أخبارثقافة و فنونمقالمنتديات

بين العقل والنقل بقلم /عوني عبد الصادق علي .. روائي مصري …موقع صاحبة الجلالة

انتظرتَ كثيرًا وأنت تبحث عن حقيقة دائمة في هذه الحياة العابرة، رغم يقينك بأن كل ما في الوجود هو محض احتمال، وقناعاتك المطلقة بأن لا قاعدة ثابتة لأي شيء إلا قاعدة التغيير. أنفقت أكثر من نصف قرن خضت فيه غمار ثقافات وفلسفات شتى. قرأت فخر الدين الرازي ومصنفاته في القضاء والقدر، وعقله المحكم على خلاف النص، وابن عطاء وعزلته المعرفية في دائرة الوعي، وأبا حيان التوحيدي واغترابه الفلسفي وتأثرك الكبير مثله بالجاحظ بجدله ومناكداته، وإثارة الأسئلة للوصول إلى حقيقة حياة الفقر وهو يرسف في أسمال اليتم والعوز، في حين يرفل الأدعياء في نعيم الجهل! مما حدا به إلى تعجله للنهاية بموت اختياري، وفكرة الأصل والشبه، وتآخي العقل والنقل التي تبلورت عند أبي حامد الغزالي في فكرة عالم الشهود.
رأيت طاليس ــ بعيني رأسك ــ يسير في شوارع أثينا وسط العامة يجالسهم؛ يتحدث عن الذي أبدع الكون، وخلق الموجودات، وأفلوطين يستكمل نفس الفكرة “السنخية”، (*) يعدد مراتب الوجود من الإنسان الجسد ــ الصنم ــ وفوقه الإنسان النفساني، يعلوه الإنسان العقلي؛ فإن كان الوجود الأول عقلًا كليًّا، فللإنسان عقلٌ علي شاكلته مهيئٌ ليرتقي إلى الكائنات العلوية بالتدبر والتفكر البرهاني.
اجتهدت لتصقل من مادة الحياة نموذجًا تفسيريًّا ــ خريطة معرفية مجردة ــ لإعادة فهم الحقائق القديمة، تحركها مع ديمومة الزمن، وتتجاوز به كلَّ جزئي وعارض؛ لتصل إلى إبداع حقيقةٍ ومثالٍ ينزع عن الأشياء طابعها المؤقت وقدسيتها الزائفة. رفضت أن تعزل نفسك في برج عاجيٍّ بعيدًا عن الناس. بحثت عن “المثال” وسط العامة، في أفعالهم ونقاشاتهم وأحاديثهم العابرة، تكلمت لغتهم؛ لإبداع فلسفة بدون مسافة بين الفيلسوف والواقع لابتكار نموذجٍ تفسيري يفكك خشيتهم من التفكير في المستقبل، معتمدًا على إمكانيات العقل البشري دون تعطيلٍ لصفائه، أو إمكانياته وقدراته، رغم ما يعتريه من قصور. لم يكن الفكر عندك فعلًا مجردًا، ولكنه تجربة حية تستدعي تفاصيل الحياة العابرة وفُتاتها، كما تستدعي التاريخ بذاكرة فولاذية، وتقحمه في اللحظة الآنية؛ لتتولد فكرة الصعود والهبوط للموجودات، فالحلول هو عملية هابطة من الذات الكاملة إلي الموجود الأدنى، والاتحاد هو عملية صاعدة من الموجود الأدنى إلي الأعلى، وفي النهاية كان البحث الدائم في العلم غايتك للوصول إلى مقاصد الدين والشرع.
منذ سنوات مضت كانت أول محاضرة أحضرها لك، دخلتُ القاعة وأنت تجلس كملك متوج كان ينقصك غليون لتكون صورة نمطية لمفكر على غير العادة. أصخت إليك السمع، كل خلية في جسدي كانت تسمعك، هذه المحاضرة كانت فارقة في مسيرتك ومسيرتي، شاهدتها مرات عدة، وأنت تبحث في تأسيس جهازك المعرفي الجديد، عن موطئ قدم في هذا العالم المتصارع، عن ماركة تسجلها ذات جدوى ومصداقية وقدرة على طرح أسئلتك الوجودية الحاسمة، لا تقبل إجابات زائفة، تقذف بسيل من الأسئلة لتحرك ماء الحياة الساكن في شرايننا، كيف ندير أنفسنا؟ كيف نفكر في الماضي دون حنين نستولوجي بليد؟ فكر وإحساس يحدد إدراكنا للعالم، وإحكام المناهج التي تنهار أمام تضارب مخرجاتها، واعتراضات العقل والشكوى من تضارب الفتاوى وكثرة الخرافات بين المشتغلين في الحقل الشرعي، وكثرة القضايا العالقة دون حل في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون وغيرها، واضطراب العلاقات بالمنجزات العلمية والتطورات التقنية, والانتقال في الموقف من التحريم المطلق إلى الإباحة المطلقة، والانخراط في نفس المسوغات ومن خلال المناهج نفسها. كل ذلك لم يحرك الماء الساكن، ولم يحدث الصدمة المطلوبة لإعادة النظر في الأجهزة المعرفية التي نفكر بها لنحولها لموضوع للتفكير قادرٍ على تجديد أصول الفقه, وإدخال المقاصد وفقه الواقع والتدرج وفقه الأوليات وفقه النوازل … إلخ، والبحث عن الأجهزة المعرفية التي تشكل بِنًى فكريةً تحتية؛ تضيف معادلة الواقع إلى معادلة النص والنقل، وإعادة مركزة الواقع في مقابل العقل والنقل.
عوني عبد الصادق علي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *