كثيرون يحبسون الأنفاس انتظارا لتصرفات الرئيس الأمريكى الجديد القديم “دونالد ترامب” مع عودته رسميا إلى “البيت الأبيض” فى 20 يناير 2025 ، فقد وعد “ترامب” بالإنهاء الفورى لحروب أوكرانيا والشرق الأوسط ، وقد يكون الوعد قابلا للتحقق أكثر فى حالة أوكرانيا ، وقد لا يفعل “ترامب” فيها سوى التسليم بما صار أمرا واقعا ، فالتقدم العسكرى الروسى متصل هناك ، والقضم الروسى للأراضى تزايدت معدلاته اليومية ، كان التقدم الروسى اليومى يحسب بالأمتار قبل شهور ، وفى الشهرين الأخيرين بالذات ، صار التقدم الروسى يقاس بالكيلومترات يوميا ، وفى أيام كثيرة ، تقدمت القوات الروسية بعشرات الكيلومترات ، ولم يعد بين قوات روسيا وخط الحدود الإدارية لمقاطعتى “الدونباس” سوى أقل من عشرين كيلومترا ، ومع إضافة التقدم الروسى المحتمل لأسابيع حتى تنصيب “ترامب” رسميا ، فسوف يتخلق واقع جديد على الأرض ، يكون الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” قد حقق به خطته المقررة رسميا منذ أواخر سبتمبر 2022 ، وتكون روسيا قد ضمت فعليا كل أو أغلب المقاطعات الأوكرانية الأربع (دونيتسك ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون) ، وتكون الحدود الروسية الجديدة قد تحركت غربا إلى شاطئ نهر “دنيبرو” ، وجرى الاستيلاء الروسى بالكامل تقريبا على أوكرانيا الشرقية (شرق نهر الدنيبرو) ، ولا يتبقى للتفاوض سوى تفاصيل إضافية ، من نوع علاقة (أوكرانيا الغربية) المتبقية بحلف شمال الأطلنطى “الناتو” والاتحاد الأوروبى .
والمعنى ببساطة ، أن ما سيكون مطروحا على الرئيس “ترامب” وقتها ظاهر جدا ، وهو التسليم بانتصار روسيا فى حرب أوكرانيا ، ومنحها ما تريد بالجملة ، ووسائل “ترامب” إلى المبتغى معروفة ، أولها التهديد بوقف التسليح الأمريكى للجيش الأوكرانى ، وإجبار الأخير على الانسحاب النهائى من منطقة توغله فى “كورسك” الروسية ، هذا إن كان سيبقى له وجود هناك حتى 20 يناير المقبل ، فالرئيس الروسى مصمم فيما يبدو على إنهاء قصة “كورسك” سريعا ، ولم يتبق للأوكران هناك سوى أقل كثيرا من نصف مساحة التوغل الأولى ، فبعد أن أفاق الروس من صدمة التوغل الأوكرانى الأولى ، لجأوا إلى استخدم “كورسك” كمصيدة للقوات الأوكرانية ، تسحب من أرصدة الجيش الأوكرانى المدافعة عن ما تبقى أوكرانيا من مقاطعتى الدونباس (دونيتسك ولوجانسك) ، وبما أتاح للروس تقدما أسرع باتجاه حدود “الدونباس” الغربية ، وبعد التقدم الروسى الأخير فى “كوراخوفى” بعد “أوجليدار” ، لم يعد يعيق القوات الروسية مانع جدى من الوصول إلى “بوكروفسك” ، وبعدها إلى “كراماتورسك” و”سلافيانسك” ، فيما تتقدم القوات الروسية من “أوجليدار” ـ بأراضيها المرتفعة المتحكمة ميدانيا ـ إلى ما تبقى بيد الأوكران من مقاطعة “زاباروجيا” ، وإذا تواصلت الحرب لمدة أطول ، ربما يكون لدى الروس إغواء واقعى للتقدم إلى مقاطعتى “دنيبرو بتروفسك” غربا و”أوديسا” جنوبا ، وهو إن حدث ، سوف يعنى خنق (أوكرانيا الغربية) تماما ، وغلق اتصالها بالبحر الأسود ، تماما كما جرى مبكرا بعد معركة السيطرة على “ماريوبول” ، ومنع اتصال أوكرانيا ببحر “آزوف” ، وفى ظل هذه الصورة القاتمة المتوقعة للمصير الأوكرانى ، فلن يكون أمام “ترامب ” عظيم الإعجاب بالرئيس “بوتين” ، سوى أن يسعى غالبا للتوصل إلى تفاهم أساسى ، توقف به روسيا الحرب عند الحدود التى وصلت إليها ، وبصفقة تتقبل بها أوكرانيا ما جرى من انتزاع أراضيها ، ومقابل إغراء الروس بمزايا مضافة ، قد يكون بينها تقليص أو حتى إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا ، وقد بلغت نحو 20 ألف عقوبة ، لم تؤثر جديا فى المحصلة على حركة الاقتصاد الروسى ، الذى زادت معدلات نموه السنوى فى عامى 2023 و 2024 ، وقد لا يعنى ذلك كله إن جرى ، أن “بوتين” قد يقنع بهدايا “ترامب” الثانى ، ربما لأن “بوتين” يربط ما يجرى فى أوكرانيا بالنطاق العالمى الأوسع ، وبتطور حلفه الوثيق مع الصين ، التى يسعى “ترامب” لمفاقمة التوترات الاقتصادية والتجارية معها ، ولمضاعفة الضرائب الجمركية المفروضة على واردات واشنطن من الصين ، وتوترات “ترامب” مع الصين ، قد تؤثر بالتبعية على العلاقات مع روسيا ، التى رحبت بتحفظ بفوز “ترامب” ، ولم يزد الرئيس الروسى فى لهجة ترحيبه عن معنى التهنئة البروتوكولية أولا ، مع وصف ما يطرحه “ترامب” عن حرب أوكرانيا بأنه “أمر قد يستحق الاهتمام” .
وفى المحصلة بالجملة ، فإن رغبات “ترامب” فى وقف حرب أوكرانيا ، وفتح سبل تفاهم مع روسيا ، لا تبدو تطوعا ولا تكرما من الرئيس الأمريكى الجديد القديم ، بل تأتى اعترافا بتوازن قوى جديد صنعته روسيا على الأرض ، وهو ما يختلف فى الكثير من تفاصيله عن الوضع فى الشرق الأوسط ، حيث علاقة واشنطن بتل أبيب مختلفة عن مثيلتها مع الأوكران ، فما بين أمريكا و”إسرائيل” علاقة اندماج استراتيجى ، لا تملك أى إدارة فى واشنطن فرصة للتفلت أو التخفف منها ، فكيان الاحتلال “الإسرائيلى” هو “البقرة المقدسة” عند صناع القرار من ديمقراطيين وجمهوريين ، و”ترامب” فى عهد رئاسته الأولى ، أثبت أنه الأكثر ولاء للكيان ولحكومة “بنيامين نتنياهو” ، والكل يذكر قرارات “ترامب” وقتها ، واعترافه الرسمى بجعل “القدس الموحدة” المحتلة عاصمة أبدية للكيان ، ونقله السفارة الأمريكية إلى القدس ، فوق تأييده ضم “الجولان” السورى رسميا إلى كيان الاحتلال ، وطرحه لما عرف باسم “صفقة القرن” ، التى أسقطت كليا سوابق ولواحق السعى الأمريكى الصورى إلى ما يقال له “حل الدولتين” ، وإقامة كيان فلسطينى فى “غزة” و”الضفة الغربية” بشرط موافقة “إسرائيل” ، وهى الموافقة التى باتت مستحيلة من سنوات ، وأعلنت حكومة “نتنياهو” وأغلبية “الكنيست” مرارا رفض إقامة أى كيان فلسطينى ، وزادت على الرفض بضم فعلى لأغلب أراضى الضفة فى المنطقتين (ب) و(ج) بحسب تقسيمات اتفاقات “أوسلو” وتوابعها ، وتوسيع مناطق الاستيطان اليهودى فى الضفة ، ومضاعفة أعداد المستوطنين إلى ما يفوق 750 ألفا ، فوق تهويد القدس ، وإعادة احتلال “غزة” ، وهو ما يعنى بالضرورة ، أن سعى “ترامب” إن حدث لوقف حرب “غزة” ، لن يكون إيجابيا بالمرة لصالح الفلسطينيين ، فإضافة لإلتزام واشنطن الثابت بخوض حرب “الإبادة الجماعية” فى “غزة” إلى جوار “إسرائيل” ، وهو ما سيزيده “ترامب” ويضاعف معدلاته ، حتى وإن أقدم على سعى لوقف إطلاق نار موقوت ، لا ينهى عدوان الإبادة ، ولا يلزم “إسرائيل” بالانسحاب كليا من “غزة” ، بعد أن أقامت أطواق احتلال عسكرى مستديم ، عند “خط فيلادلفيا” و”خط نتساريم” وخط تطويق الحدود الشرقية للقطاع بالكامل ، وتفريغ الشمال “الغزاوى” من السكان بالقوة ، فأولوية المصالح “الإسرائيلية” هى الحاكمة عند “ترامب” ، تماما كما كانت عند “بايدن” ، ربما الفارق أن “ترامب” أكثر صراحة وتبجحا وصلافة ومباشرة ، وقد يدفع صديقه ووليه “نتنياهو” إلى إبداء بعض المرونة التكتيكية العابرة ، مقابل إغراء “نتنياهو” بكسب السيادة على أراضى الضفة الغربية وعلى نحو شبه كامل ، بعد أن أيد “ترامب” فى رئاسته الأولى ضم مناطق المستوطنات نهائيا ورسميا للكيان ، وربما تكون أولى هداياه هذه المرة ، إعلان التأييد الأمريكى لضم الضفة الغربية بغالبها إلى “إسرائيل” ، فقد قالها ترامب فى حملته الانتخابية الأخيرة ، قال أن مساحة “إسرائيل” صغيرة ولا بد من توسيعها ، وبعد الفوز الباهر لترامب ، وحيازته للرئاسة وأغلبية الكونجرس بمجلسيه وحكام الولايات ، فقد صارت يده طليقة فى إعلان ما يريد ، ولا يستبعد أن يكون ضم الضفة الغربية أول قراراته فيما يخص الفلسطينيين ، وقد صار الأمر معلنا على رءوس الأشهاد ، وأعلنت حكومة “نتنياهو” عن 2025 بصفته عام الضم النهائى للضفة ، ونوقش الهدف المذكور فى اتصالات “نتنياهو” الهاتفية المتعددة مع “ترامب” ، وذهب به وزير الشئون الاستراتيجية “الإسرائيلى” “رون ديرمر” إلى لقاء استطلاعى مفصل مع “ترامب” ، وبدت الإشارات الأولى الصادرة عن “ترامب” مبشرة للكيان ، فقد أعلن عن تعيين “مايك هاكابى” سفيرا لواشنطن لدى “إسرائيل” ، و”هاكابى” كان قسا معمدانيا ومبشرا إنجيليا ، وتحول إلى رجل سياسة على دين “الصهيونية المسيحية” ، ويؤيد بالكامل ضم “يهودا” و”السامرة” ـ أى الضفة الغربية ـ لكيان الاحتلال ، ويتفوق على “بن غفير” و”سموتريتش” فى الولاء للصهيونية الدينية ، فوق أنه يعتبر تأييد الكيان واجبا مقدسا عليه كمسيحى ، وبدعوى تهيئة الأوضاع تمهيدا لعودة “السيد المسيح” الثانية ، وخوض حرب “هرمجدون” بنهاية العالم ، وهو ما يعنى بوضوح قطعى ، أن إعلان تأييد “ترامب” لخطة ضم الضفة الغربية ، صار من شبه المؤكد ، وبالطبع ، ليس هناك من موقف عربى يضغط على “ترامب” أو يراجعه ، بل أغلب الأنظمة العربية ترحب به لأسبابها الخاصة ، وربما تسند مسعاه المتوقع المتجدد لضم دول عربية بعينها إلى حظيرة اتفاقات “إبراهام” سيئة الذكر ، أما الحرب على لبنان وإيران فلها حديث آخر .
[email protected]