بدا الرئيس الأمريكى المنتخب “دونالد ترامب” فى حالة هياج مصنوع عقب لقائه الحميم مع “سارة” زوجة مجرم الحرب المطارد دوليا “بنيامين نتنياهو” رئيس وزراء العدو، وهدد بإشعال ما أسماه “الجحيم” ضد حركة “حماس” وأخواتها ، إذا لم تفرج المقاومة الفلسطينية عن أسرى أمريكا و”إسرائيل” فى “غزة” قبل دخوله إلى البيت الأبيض ، وتنصيبه رسميا فى 20 يناير المقبل ، وقد بدا “ترامب” كأنه ينفذ البند الأول من جدول نصائحه فى كتاب “فن الصفقة” ، الذى أصدره “ترامب” عام 1987 بالتعاون مع الصحفى الأمريكى “تونى شوارتز” ، وهو المبالغة والتضخيم والإثارة والترويج لمزايا عقاره حتى يمكنه البيع الناجز لأعلى سعر يريده ، وهو يريد فى هذه الحالة ، أن يصدر الرعب لحركة “حماس” وأخواتها ، وللوسطاء الإقليميين فى مصر وتركيا وقطر ، وبهدف دفعهم لإنجاز الصفقة التى يريدها بدون دفع الثمن ! .
وكما كان ينصح “ترامب” بشراء العقارات فى أوقات الركود الاقتصادى وانهيار الأسعار ، ثم يروج لتجديدها ويبيع بأغلى الأسعار ، فهكذا يتصور أنه يفعل فى قضية “غزة” ، ويتصور كما غيره من المسئولين الأمريكيين و”الإسرائيليين” ، أن أوضاع المقاومة الفلسطينية صارت إلى حال ركود وبوار ، وبالذات بعد استشهاد القائد “يحيى السنوار” ، وبعد عقد اتفاق تهدئة ملغوم على جبهة لبنان ، وبعد تحريك قطع “الشطرنج” الإرهابية على جبهة الداخل السورى ، وكلها تطورات تغرى “ترامب” ، وأغرت “نتنياهو” من قبله ، أن فرصة الإجهاز على صمود “غزة” المعذبة قد حانت ، وأن الوقت يدعم فرصه لأن يأمر فيطاع ، وحبذا لو أضاف بهارات التهديد الحارقة بالجحيم ، وأنه سيتحول ويظهر العين الحمراء حال عدم تنفيذ الأوامر ، ويشعل جحيما ويضرب على نحوغير مسبوق “فى تاريخ الولايات المتحدة الحافل والمجيد ” على حد وصفه ، ولا نعرف عن أى “مجد” أو “مجيد” يتحدث الرئيس المقاول ، وتاريخ أمريكا حافل بالجرائم المفزعة والهزائم الأكثر إفزاعا ، فلم تنتصر هذه “الأمريكا” فى أى حرب خاضتها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، والحبل ممدود على الجرار ، من هزيمة أمريكا فى “فيتنام” إلى هزيمتها فى “أفغانستان” ، وقد كان “ترامب” نفسه ، هو أول من سعى لإخراج القوات الأمريكية من “أفغانستان” ، ثم انتقد خلفه “جو بايدن” بسبب فوضى الانسحاب المهين بعد حرب السنوات العشرين ، وكأن شيئا آخر غير الفوضى والإهانة المستحقة ، كان ينتظر واشنطن أيا ما كان اسم ساكن البيت الأبيض ، ثم أن “ترامب” نفسه ، يسعى فى عهده الثانى الوشيك إلى خروج آخر ، ويعلن عزمه على سحب واشنطن من دوامة حرب أوكرانيا ، بعد أن صارت أمريكا قاب قوسين أو أدنى من هزيمة محققة هناك ، وتقدم الروس عسكريا فى ميدان الحرب ذات الطابع العالمى بأوكرانيا ، ولم يعد لدى “ترامب” ولا غيره ، سوى أن يسلم بحقائق الواقع على الأرض ، وأن يوقف نزيف مئات مليارات الدولارات ، التى أنفقتها واشنطن والغرب كله فى الميدان الأوكرانى ، ومن دون أن يستعجل الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” فى جنى الحصاد ، وإلى أن تتحقق شروطه كلها ، ومن غير توقف عند تراجعات أوحى بها “ترامب” ، من نوع رفض ضم ما يتبقى من أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، وحتى الوعد بتفكيك العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا ، إذا لجأت “موسكو” لخفض مستوى علاقات التحالف الوثيق مع “بكين” ، وهو ما لا يبدو أن “بوتين” مستعد لتقديمه ، وهو ما قد يدفع “ترامب” إلى البحث عن متروكات ثمينة فى الحطام الأوكرانى ، وطلب الحصول على ثروات وموارد أوكرانيا بالجملة ، وابتزاز حلفاء واشنطن الأوروبيين ماليا ، وفى منطقتنا الشرق أوسطية المنكوبة الملتهبة ، قد يتصور “ترامب” كما تصور سيده وتابعه “نتنياهو” ، أنها تحولت إلى الربع الخالى ، مع إغراءات خضوع النظم الفاسدة المستبدة فى سوق الجملة ، وأنه قد يكفى التهديد بالجحيم حتى ترفع الرايات البيضاء ، وقد يكون ذلك صحيحا فى أحوال بعض الأنظمة أو غالبها ، وقد اختار “ترامب” صهره “مسعد بولس” ـ اللبنانى الأصل ـ كبيرا لمستشاريه فى شئون الشرق الأوسط والمنطقة العربية ، وبذات الطريقة “العائلية” ، التى اختار بها “ترامب” صهره الآخر “تشارلز كوشنير” سفيرا لواشنطن فى فرنسا ، وكان ابن تشارلز “جاريد كوشنير” يد “ترامب” اليمنى فى فترة رئاسته الأولى ، فيما يتعلق بعلاقات “إسرائيل” مع العرب والفلسطينيين ، وكان “كوشنير” ـ الإبن ـ وراء عقد اتفاقات “إبراهام” سيئة الصيت ، ووراء تدبيج ما أسمى صفقة القرن أو “صفقة ترامب” ، ووراء قرارات ضم القدس والجولان من قبل ، ولا يبدو رجل “ترامب” الجديد “بولس” مفيدا له أكثر من “كوشنير” اليهودى الصهيونى بامتياز ، وبحكم المعنى الطائفى الظاهر لحكاية اختيار “بولس” ، فقد لا تبدو قصته فعالة بأكثر من حدود التفاعلات والمكايدات اللبنانية الداخلية ، وإعلانه الكاشف مبكرا عن السعى لنزع سلاح حزب الله بالكامل ، ودفع تيار الحوادث إلى إشعال حرب أهلية جديدة ـ لا قدر الله ـ فى لبنان ، ودونما مقدرة عملية فعلية على نزع سلاح الحزب ، الذى أثبت قدرته الفائقة على التجدد بعد اغتيال قادة حزب الله وعلى رأسهم “السيد حسن نصر الله” ، فى حين لا يبدو “بولس” قادرا بسهولة على إكمال خطة “اتفاقات إبراهام” ، ودفع دولة عربية وازنة إلى المستنقع ذاته ، خصوصا مع تصميم “ترامب” على رفض ما يسمى “حل الدولتين” ، وسوابق إجماع الفلسطينيين على رفض صفقته الشهيرة السابقة ، وما استتبعه من تنصل النظم العربية الأقرب ميلا إلى واشنطن ، ولم يعد سرا ، أن “ترامب الثانى” ، قد يبدى تجاوبا وتأييدا لخطة حكومة “نتنياهو” فى الضم الرسمى النهائى للضفة أو أغلبها لكيان الاحتلال ، مع ضم “غزة” عمليا هى الأخرى ، وسوف ترفض الاتجاهات الفلسطينية حتى المعارضة لحركة “حماس” وأخواتها خطة ضم الضفة واحتلال “غزة” ، وهو ما يعنى إذكاء روح المقاومة الفلسطينية لا إخمادها .
والصورة العامة مع الاستطراد المتوقع للحوادث ، قد لا تترك مجالا فعالا لتهديدات “ترامب” بالجحيم ، خصوصا أن الجحيم قائم فعلا ، وحرب الإبادة الجماعية متصلة فى “غزة” منذ 14 شهرا ، وتشارك فيها واشنطن بأقصى طاقتها ، ليس فقط بحشد الجيوش والأساطيل وحاملات الطائرات والقاذفات الاستراتيجية فى المنطقة ، وبالجسور الجوية والبحرية الواصلة للكيان بشحنة سلاح متطور كل يومين ، وبالحضور العسكرى الأمريكى المباشر فى صحراء النقب وتل أبيب ، وفى قلب “غزة” نفسها ، وبالقنابل الأمريكية الضخمة التى تدمر كل شئ ، وبتكنولوجيا المراقبة والمسيرات الأكثر تطورا ، وتشارك فى اغتيالات قادة المقاومة ، وليس بوسع “ترامب” أن يصنع جحيما أكبر ، خصوصا مع تكرار مزاعمه بأنه قادم ليصنع السلام (!) ، فالكل يعرف أنه قادم لتمكين “إسرائيل” وحدها فى الشرق الأوسط ، تماما كما فعلت إدارة “بايدن” من قبله ، وبطاقة تدمير فاقت تأثير القنابل الذرية نفسها ، ومن دون أن تنطفئ نار المقاومة ولا غاب نورها ، فبقدر المحنة يكون خلقها ، والطغيان والجبروت الأمريكى “الإسرائيلى” ، أدى ويؤدى إلى خلق مقاومة من نوع مختلف ، لا تنتهى حياتها باغتيال القادة ، بل يزيدها استشهاد القادة حضورا وتوهجا ، وهو ما جرى ويجرى على الجبهة الفلسطينية و”غزة” بالذات ، ومقابل العذاب الأسطورى ، الذى عاشه ويعيشه الشعب الفلسطينى ، ورغم حملات التطهير العرقى والإفناء الجماعى للفلسطينيين فى شمال مدينة “غزة” بالذات ، ورغم القتل الممنهج البربرى بالقصف وبالتجويع ، وبالحرمان من أبسط مقومات الحياة ، رغم كل هذا العذاب الذى فاق كل تصور ، فقد ثبت أنه بوسع المقاومة أن تجدد نفسها ، وأن تدير خلاياها حرب استنزاف متصلة ضد قوات العدو ، ولو أضيف حضور القوات الأمريكية رسميا ، فسوف تلقى مصير الاستنزاف الدموى ذاته غالبا ، وقد تكون ميزة “ترامب” ، قياسا إلى “بايدن” وأشباهه ، أنه لا يتحايل ولا يخفى شيئا ، ولا يتدثر بأغطية الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من الأقنعة الكاذبة ، وأنه لا يترك لأحد فرصة الشك فى حقيقة وجه وسلوك أمريكا القبيح ، فأمريكا هى الطاعون والطاعون أمريكا ، كما وصفها شاعر فلسطين الأعظم “محمود درويش” ذات يوم بعيد ، والطاعون “الترامبى” نسخة أصلية من طاعون رعاة البقر المؤسسين لهذه “الأمريكا” ، فيما لم تعد المقاومة الفلسطينية فى وضع الرجاء لرحمة واشنطن ولا لعطف غيرها ، فلم تعد من فرصة لاختيارات فى لحظة الهول بين سلامة وندامة ، ولم يعد لدى الفلسطينيين من شئ يخسرونه إلا قيودهم ، ورهان “ترامب” فى ترويع المقاومة والشعب الفلسطينى خاسر بالتأكيد ، مهما نكل وأخاف الأنظمة العربية المتداخلة فى الشأن الفلسطينى ، ومهما اغتال من قادة المقاومة بنيران جحيمه ، فإن شيئا لن يتغير بالترويع والترهيب والتهديد بالجحيم الموعود .
[email protected]