الرئيسيةأخبارالشرق “الإسرائيلى”الجديد . . بقلم .. عبدالحليم قنديل
أخبارمقال

الشرق “الإسرائيلى”الجديد . . بقلم .. عبدالحليم قنديل

 

قبل نحو عشرين سنة ، زرت مدينة “درعا” مهد الثورة السورية ، كنت وقتها فى دمشق ، مدعوا بصفتى الصحفية لمتابعة أعمال موتمر نقابى عربى ، وكان طبيعيا أن أتواصل مع الأحباب فى حزب “الاتحاد الاشتراكى العربى الديمقراطى” ، وهى الجماعة الناصرية الرئيسية فى سوريا ، التى أسسها الراحل المرموق “د.جمال الأتاسى” ، وكان قياديا بارزا فى “حزب البعث” ، انشق عنه منحازا إلى خط “جمال عبد الناصر” فى صراعه مع “البعث” عقب نكبة انفصال سوريا ، ونهاية تجربة “الجمهورية العربية المتحدة” مع مصر ، وبعد استيلاء “حافظ الأسد” على السلطة فيما أسماه “الحركة التصحيحية” عام 1970 ، زادت ضراوة اختلاف “الأتاسى” مع “الأسد” بعد وئام عابر، وخرج “الأتاسى” وجماعته مما كان يسمى “الجبهة الوطنية التقدمية” وقتها ، وحل كثير من الناصريين ضيوفا على سجون “الأسد الأب” و”الأسد الإبن” من بعده ، وأصبح “حزب الاتحاد الاشتراكى” أقرب إلى الحزب السرى رغم سابقة الترخيص بوجوده ، ودأب “الأتاسى” على توحيد جهود المعارضة اليسارية بالذات ، وأقام “الجبهة الوطنية الديمقراطية” المعارضة ، التى صارت نواة لهيئة “التنسيق الوطنى” بعد ثورة سوريا أواسط مارس 2011 ، التى انطلقت أولا من “درعا” التى زرتها قبلها بسنوات ، كانت الزيارة نوعا من المخاطرة ، فقد التقيت بعدد من القياديين الناصريين فى منزل أحدهم بدمشق ، وفوجئت بدعوة أحدهم للذهاب إلى “درعا” ، وكانت المسافة قريبة لا تستغرق بالسيارة سوى أقل من نصف ساعة ، لكنها امتدت إلى أكثر من ساعة بكثير ، فقد لجأ مرافقى ومضيفى إلى طرق جانبية بعيدة عن الحواجز الأمنية المنتشرة بكثافة ، وإلى أن وصلت منزل قيادى ناصرى فى منطقة “درعا المحطة” ، وعلى دعوة الغداء الكريم وقبلها وبعدها ، دار حوار طويل مع قياديين ونشطاء سوريين ، وكان مجرى الحوار الرئيسى حول قضية التغيير والثورة فى العالم العربى ، كنت وقتها قياديا مؤسسا فى حركة “كفاية” ، وأول متحدث رسمى باسمها ، ثم منسقها العام المنتخب فيما بعد إلى وقت قيام ثورة 25 يناير 2011 فى مصر ، وكانت “كفاية” اشتهرت بشعارها المختصر (لا للتمديد . لا للتوريث) ، وكنت فى رئاسة تحرير جريدة “العربى” المصرية ، واستعد للانتقال إلى رئاسة تحرير جريدة “الكرامة” ، وكنا فى جريدة “العربى” أول المنتقدين بحدة لما جرى فى سوريا عقب وفاة “الأسد الأب” ، والمسارعة إلى تنصيب إبنه “بشار” ، وتغيير الدستور السورى فى كوميديا سوداء استغرقت ربع ساعة لا غير ، ونزلت بسن الترشح للرئاسة ليوافق سن الإبن الموعود ، الذى كان وقتها فى الرابعة والثلاثين من عمره ، وكان مانشيت “العربى” وقتها قاطعا “نرفض توريث الجمهوريات” ، كان الرفض بمناسبة ما جرى فى سوريا ، وكانت العين طبعا على ما كان يجرى فى مصر ، وفيما بعد دعيت من فضائية “الجزيرة” للمشاركة فى حلقة من برنامجها الأشهر ، جرى بثها من دمشق نفسها ، وذكرت كوميديا الربع ساعة السوداء ، وأبدى مقدم البرنامج السورى “د. فيصل القاسم” هلعه على مصيرى ، لولا أن الله سلم ، وخرجت من دمشق بسلام ، تماما كما خرجت من “درعا” قبلها بسنوات .
وقد تكون مقدمة المقال اليوم ، طالت بأكثر مما ينبغى ويسوغ ، وإن كانت فى ظنى ضرورية لتفهم ما يلى من سطور ، فقد كنت من أعلى الأصوات تأييدا للثورة فى سوريا كما فى غيرها ، وعبرت عن رأيى مرارا فى لقاءات تليفزيونية ، وفى مقالات نشر أغلبها فى هذا المكان نفسه ، وكنت أراقب ما يجرى بانتظام مشوب بالقلق ، فقد استمرت الثورة شعبية وسلمية غالبا فى شهورها التسعة الأولى ، ثم أرادت أغلب الأطراف المتصارعة ، أن تنقلب على سلمية الثورة ، وسارعت “جماعة بشار” إلى الهروب للأمام ، وتحولت الثورة فى سوريا إلى ثورة على سوريا ، ودارت فصول المحنة السورية الأحدث ، وتطورت حوادثها الدامية إلى حرب طائفية كافرة ، وإلى تدخلات أجنبية وإرهابية بالجملة ، دمرت أغلب مدن سوريا الحبيبة ، وقتلت نحو 700 ألف سورى ، وشردت نحو عشرة ملايين ، وكان القتلة من نحو أربعين جنسية بينها السورية للأسف ، ولم يرفض التدخل الأجنبى وعسكرة الثورة سوى “هيئة التنسيق الوطنى” المعارضة ، ثم توالت التطورات على نحو صار يعرفه الكافة ، ونجح التدخل الروسى الجوى فى تجميد الوضع لسنوات ، وحفظ وضع الرئيس السابق “بشار” فى ثلاجة قصره الرئاسى ، وتحويله إلى رئيس افتراضى ، ظل فى منصبه على نحو اصطناعى ، ومن دون أن تكون له سلطة واقعية حقيقية ، فقد كان الأمر بيد من أنقذه ظاهريا ، بينما كان “الجيش العربى السورى” يتحلل ويضمحل ويفقد همة القتال ودواعيه ، فقد قتل من الجيش وحده نحو مئة ألف فى حرب طاحنة ، كان “بشار” يملك ـ نظريا ـ فرصة تجنبها ، لو أنه أراح واستراح وتنحى من البداية ، وحفظ وحدة البلد وتماسك الجيش ، وسلامة التحول إلى انفتاح ديمقراطى مدروس ، بدلا من اعتياد التجارة بالشعارات القومية وبالمقاومة ، وعلى ظن أنها تنجيه من حساب مستحق ولو تأخر ، جاءت لحظته الحاسمة فى عشرة أيام لاهثة انتهت بهروبه لاجئا بليل إلى موسكو ، التى امتنعت عن التدخل الجدى لصالحه هذه المرة ، تماما كما امتنعت إيران وجماعاتها وذهبت .
وقد يرى البعض فى الخلاص من النفوذ الإيرانى مطلبا شعبيا غلابا ، وهذا صحيح تماما ، لكن المشكلة أن إيران ذهبت ، وجاءت “إسرائيل” بنفسها أو من وراء قناع إقليمى ، وقد فرحت لفرح قطاعات كبيرة من السوريين بزوال “جماعة بشار” الطائفية المجرمة البائسة ، لكن الانقباض سرعان ما طغى على دواعى الفرح ، فلا أحد يعرف مدار الحكام المفترضين الجدد ، وتواريخ بعضهم مثقلة بإرهاب مفزع ، ثم أن مراحل الانتقال ربما تطول وقد تتعثر ، وقد ننتظر لسنوات إلى أن تجرى انتخابات نزيهة ، يحكم بها الشعب السورى نفسه بنفسه ، والانتخابات ليست مجرد إجراءات ومظاهر صورية ، والديمقراطية لا تنمو ولا تنفع فى فراغ وطنى موحش ، وشرط الديمقراطية الصحيحة مرتبط بأولوية الاستقلال الوطنى ، ولم يكن حكم “بشار” ولا حكم أبيه حافظا لاستقلال وطنى حقيقى ، فوق ظلمه وسفكه للدماء بغير حساب ، ومن حق الشعب السورى أن يفرح ويستبشر مع زوال حكم الظالمين ، ولا أحد عاقل يبكى على ذهاب “بشار” ، فقد كان حكمه ذهب قبل ذهاب شخصه بعقد كامل ، وأول بديهيات حرية السوريين أن يعيشوا فى وطن حر ، فلا شعب حر فى أمة مستعبدة ولا فى وطن مستلب السيادة ، وفى صورة سوريا الراهنة مخاطر مرعبة ، فهيمنة وسيطرة الأجانب الإقليميين والدوليين منظورة ، قواعد لأمريكا فى الشرق وقواعد لروسيا فى الغرب ، وأعداد هائلة من الأجانب فى بنية المنظمات المسلحة ، إضافة لتحديات كبرى تنتظر الوضع الجديد ، فالسلطة ليست مجرد غلبة بتسلط السلاح ، والمخاوف من عودة إلى حروب داخلية لا تزال مخيمة ، فالقواعد الأمريكية لاتزال تحمى “قوات سوريا الديمقراطية ” الكردية الإنفصالية ، والقواعد الروسية فى “حميميم” و”طرطوس” موجودة بالقرب من أنفاس “العلويين” المرتابين على الساحل السورى ، والنفوذ والسلاح التركى مسيطر من الشمال إلى “دمشق” ، ونذر تفتيت سوريا حاضرة بكثافة ، ففى زمن الانتداب الفرنسى القديم ، كان المستعمر قبل رحيله يخطط لإنشاء خمسة كيانات منفصلة فى سوريا ، دولة للسنة وأخرى للعلويين وثالثة للدروز ورابعة للأكراد وجيب إضافى للمسيحيين والأقليات الأصغر ، وكانت سوريا على مدى أكثر من قرن مضى عرضة لدورات تقسيم ، فى البدء كانت سوريا الكبرى ، التى أعيد رسمها و”بلقنتها” باتفاق “سايكس ـ بيكو” بعد الحرب العالمية الأولى ، وأقيمت على أرضها التاريخية دول لبنان وفلسطين (حتى احتلالها صهيونيا) والأردن إضافة لسوريا الحالية ، وما من ضمان أكيد لوقف تفتيت سوريا ، خصوصا مع تدهور وانحطاط الوضع العربى العام ، ففى زمن “سايكس ـ بيكو” جرى تقسيم الأمة إلى أقطار ، ثم نتحول اليوم إلى مرحلة تقسيم الأقطار إلى أمم صغرى طائفية وعرقية وقبلية ، وسوريا ـ أكثر من غيرها ـ عرضة لتفتيت المفتت اليوم ، خصوصا مع كثافة التدخلات الدولية على أراضيها ، والرغبة الأمريكية الظاهرة فى الترويج لفيدراليات سورية متناحرة ، يزيد خطرها الماحق مع تدمير كيان الاحتلال للجيش السورى بالكامل برا وجوا وبحرا فى 50 ساعة غارات عقب خلع النظام ، والاستيلاء الخاطف على مناطق إضافية فى الجنوب السورى ، تعادل كامل مساحة لبنان ، ونزع سلاح دفاع الوطن السورى يلحقه استراتيجيا بكيان الاحتلال ، ويكشف حقيقة “الشرق الأوسط الجديد” ، الذى تدفع إليه أمريكا و”إسرائيل” ، وهو “الشرق الإسرائيلى الجديد” بامتياز ، الذى لا يترك للسوريين سوى فرص الاقتتال الداخلى بلا نهاية ، فاللهم احفظ سوريا .
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *