مقاربة نقدية وقراءة فى رواية عائلة عارف برهان الدين للكاتب الروائى عونى عبد الصادق
من امتع اللعب الفنية تلك التى يلعبها الناقد مع النص فيجعل من بين اسئلة التحدى التى يطرحها على نفسه ويجيب عنها فى نهاية رحلة القراءة لعبة مثيرة ، والسؤال هو : كيف كتب الكاتب نصه ؟ وربما نكون اقرب للدقة اذا حددنا السؤال فى الاتى ، : كيف كان يفكر الكاتب حال كتابته ؟
واذا شئنا دقة اكثر كان السؤال هو : من اى نقطة انطلاق بدأ الكاتب عمله ؟.
والاجابة التى يصل اليها الناقد لن تكون سوى توقعا من الجائز ان يكون صحيحا ومن الجائز ايضا ان يكون ضربا من الجهل ، والناقد اذ يلجأ الى ذلك فانه يهدف الى ممارسة الابداع الموازى ، وليس هدفه كذلك سوى الامتاع الذى يبثه الناقد لقرائه متكئا على نص ابداعى كان يقرأه . كلما توغلت فى رواية عائلة عارف برهان الدين كان يتبلور السؤال جليا ، واظن ان الاجابة ايضا كانت تضح معالمها شيئا فشيئا
جعلت نفسى مكان الكاتب وتخيلت انه كان يفكر فى حال امته العربية وما الت اليه من ضعف وهوان جعلها فى ذيل الامم ، كأنى به يقول امتنا تضرب بجذورها فى اعماق التاريخ كأمة عربية ، وتضرب بجذورها ايضا فى اعماق الروح باعتبارها ذات رسالة سماوية ، وهى كذلك مؤهلة لقيادة العالم وفقا لنصها المقدس الذى نزل على نبيها المعصوم ، فلماذا وصلت الى القاع برغم ما تتمتع به من هبات ؟
واظن الكاتب اراد ان يجسد حالها فتصور ابطالا يجسدون حالتها فلم يجد افضل من عارف حافظ برهان الدين ، اختار اسمه قبل رسمه ووصفه ، اختار اسمه دالا دلالة واضحة على المعرفة و الحفظ وقدرته على البرهنة على احقية قضاياه بالفوز فى كل المناحى ، ولأننا نقصد تجسيد امة تاريخية جعل بطله العارف الحافظ المنطقى فى برهنته المستدل بمنطقه المنتصر لقضاياه جعله مدرسا واستاذا للتاربخ ، وبذلك جعل بطله مؤهلا لتجسيد دور الامة بأكملها ،
ولأن الامة تعيش لحظة بيات تاريخى ممتدة او قل تعيش لحظة غيبوبة طويلة فقد جعل من بطله حاضرا غائبا طوال الرواية ،فهو حاضر بجسده وعلمه ووغائب بروحه ، هو معلق بين الحياة والموت ، فلا هو حى يمارس دوره الذى اختطه لنفسه مدافعا عن امته ، باحثا عن علاج لامراضها ، ولا هو ميت غيبه تراب القبر فى باطنه ، وكذا امتنا لاهى مبتة موتة كبرى ولا هى حاضرة وفاعلة فى مجربات الحياة ،
عارف حافظ برهان الدين ، يعرف الداء ومن ثم يبحث له عن دواء ، وحافظ للنظريات والمدارس الفقهية و الاتجاهات الفلسفية ، والمراحل التاربخية ويعرف من المنطق طريقة البرهان على قصاياه المكونة من مقدمات ونتائج ،
عاش حياته باحثا عن جهاز معرفى محايد يجعل الناس تتلقى النص بمفهوم واحد ومن ثم لا يكون هناك اختلاف بينهم ، ويلتئموا جميعا فى عقد واحد ويتخلوا عن الفرق والبدع وينتظموا جميعا فى صف واحد ليحققوا نبؤة نصهم المقدس ( كنتم خير امة اخرجت للناس ) وتتحقق فيهم ايضا اسنجابتهم للامر القرأنى المقدس ( وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون )
قضى حياته باحثا عن جهاز معرفى يجمع ولا يشتت ، يضع الواقع بين النص والتأويل ، جهاز يكون قادرا على فهم الواقع فى ضوء النص وتطويع النص للواقع المتغير ،
تلك هى المشكلة الكبرى التى تعانى منها الامة ، تقف بالنص عند حدود الواقع الماضى بتحدياته واسلوب حياته وقضاياه ومشكلاته وبالتالى بحلوله واطروحاته ، فلماذا تتمترس الامة عند هذا الماضى تخاف من تحاوزه ، ولماذا لم ينتبهوا لقول ربهم ( تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم )
هذه القضية التى شغلت عارف حافظ برهان الدين ، فهل سينجح فى استنقاذ امته التى هو رمزا لها ، ؟ فاذا كان هو يتمتع بالعبقرية فان عبقريته ليست الا لمحة من عبقرية الامة ، واذا كان حافظا فان حفظه لا شئ مقارنة بحفظ الله لكتاب امته ، واذا كان منطقيا فان النصر مؤكد ضمنه رب الامة لها اذا انتقلت من مقدمات الايمان الى نتائجه ، واذا كان متخصصا فى التاريخ فان امته هى التاريخ نفسه ،
فهل بعد ذلك يترك وشأنه ،؟
كلا ثم كلا ، فقد تأمر عليه العالم المتقدم وتربصوا به حتى اردوه مصابا بالسرطان فى مخه الذى هو رأس ماله ، ترى من الذى فعل ذلك ، ( انهم عتاة العالم الذين يقبضون على مفاصل العالم ) ص ١٨٤
ولان الكاتب مشغول بأمر الامة لا بأمر فرد فيها فقد جعل للبطل عائلة ، ستكون لها مواقف متباينة ، من خلالها نعرف الى اى المصائر تصير هذه الامة
فهاهى نادية بركات التى اختار لها الكاتب اسما يليق بتوجهها الفكرى الصوفى الذى يعتمد التوكل منهجا حياتيا ، فهى نادية وجميلة وتسر زوجها ، وهى ابن بركات فأينما كانت حلت البركات ، وهل هناك اكثر من البركة فى الاولاد ، ابنها البكرى ، بهى الدين عين قلب ابيه الذى اخذ على عاتقه الاستفادة من منجزات العصر التكنولوجيا للوصول الى الجهاز المعرفى الذى عاش والده متطلعا لتحقيقه ، ابنه بهى الدين ، ولا نخطئ الرمز من اختيار الاسم ، البهاء والتألق ، الابن الاكبر الذى سيتولى استكمال مسيرة ابيه ، وهى اشارة لا تخطئها عين ان الامة ماضية لن تموت بموت احد من افرادها ،
ولانه بهى الدين ابن ابيه العارف الحافظ فقد ورث العلم والمعرفة والحفظ ، ورث الاخلاق التى هى ترجمة للبهاء فأثر ان يحظى بحب امرأة فى النور ، ولانه بهى الدين فقد تحلى بالمرؤة فى انقاذها من براثن هولاء العصابة التى تحرك العالم عن بعد ، حبيبته رائدة اعلامية ، ولا يخفى على ما للاعلام من تأثير على عقول الناس ، فاذا ما كان فاسدا شاذا فان فساد الامة وشذوذها سيكون امرا حتميا ، والخطورة تكمن فى السيطرة على العاملين بالاعلام من حيث لا يدرون
، عندما تشيخ الامة متمثلة فى عارف حافظ برهان الدين فلابد ان تجدد شبابها ودمائها ، ولذا كان زواجه من سوزان حبيب الذى يوحى اسمها انها مسيحية الديانة او غربية الثقافة ، تصغره بأربعين عاما لكنها تجيد فنون الحياة العصرية فهى عملية صاحبة عمل خاص يختص بالازياء والتجميل وغير ذلك وتجيد ايضا عملية التسويق حتى لو كان تسويقا للافكار ، تزاوج ينبغى ان يكون مثمرا ، وقد اثمر بفتاة جميلة هى سهيلة حبيبة ابيها وشاب هو زهدى فنان من طراز فر يد يجيد التعبير عن افكاره رسما ، واخذ على عاتقة تخليد اباه
تختلف الاسرة ازاء سقوط الاب ، فيتفقون ضمنا على انقاذه او استكمال مسيرته حال موته ،
الاب الرمز الذى يمثل الامة مات اكلينيكا ومدة الرواية استغرقت اياما معدودة هى الفترة مابين سقوطه وموته ، لكن هذه المدة كانت كافية للغوص فى تاريخ الامة الماضى والتنبؤ بمستقبلها ،
تراوحت الرواية سردا مابين الراوى العليم والراوى المشارك بضمير المخاطب ، ربما احدث هذا الخلط بعض اللبث اثناء القراءة حتى ان اختلاطا ما اصاب الكاتب نفسه كما جاء فى ص ١٧٨ وص ١٧٩ وايضا ماجاء فى ص ١١٣ فى الفقرة الاخيرة منها
، لقد اجاد الكاتب اذ استخدم الراوى العليم المشارك بالاحدث والمعلق عليها بل استخدمه لكشف خبايا الشخصيات وتعريتها امام نفسها وامام قارئ الرواية لكأنه كان يسبح فى دماء شخصياته مستمعا حتى لنبضات قلوبها
ربما اشد ما يلفت انتباه القارئ فى هذه الرواية امران ،، الاول هو الحوار الدائر بين ابطال العمل ولك ان تتخيل مستوى الحوار الدائر بين ابطال يتمتعون بثقافة عالية ، وتخصصات معاصرة
لم ينس الكاتب ان يستشهد بأبيات الشعر التى تناسبت والجو العام للرواية مثلما استشهد بأبيات لربعيات الخيام
، ان اللغة التى سرد بها الكاتب روايته كانت طيعة سهلة لم تنزلق مطلقا الى العامية بل كان حريصا على تصويرر مشاهده بلغة فصيحة ، وربما ما نغص على القراءة هو محاولة تعريب المفردات الغربية وادراجها ضمن القاموس اللغوى العربى دون ان يضع هذه المفردات بين معقوفتين مثلما جاء فى ص ٧٥ وهو يتحدث عن الصالة باعتبارها ( هول ) وهى كلمة انجليزية بطبيعة الحال ، وكلمة كنصول عوضا عن المرآة فى ص ٧٥ ايضا
ايضا هناك بعض الهنات اللغوية كما جاء فى ص ١٨ حيث يتحدث عن الزكاء وهو يقصد الذكاء وكما جاء فى ص ٨٦ حيث قال ( من علمانيين واصوليون ( واظن انه يقصد واصوليين ( ،
يبقي ان نلفت النظر الى الحبكة الروائية التى اجاد الكاتب الربط بين اطرافها ، صانعا حالة من التحفز لمعرفة النهاية ومن المتهم الاول بمحاولة اغتيال عارف ، وكأنه يقصد ان الامة كلها تتعرض لمؤامرة اغتيال ، ولا يغيب عن فطنة القارى ان نظاما شيطانيا يرفض ان يبقي عارف برهان الدين رمز الامة فى مقدمة الناس وبالتالى تكون الامة فى مقدمة الامم ،
انها لمؤامرة التى يتربص فيها اهل الشر بأمة لو اتيحت لها الفرصة ستكون فى مقدمة الامم
الرئيسية ⁄ أخبار ⁄ قراءة فى رواية عائلة عارف برهان للروائى عونى عبد الصادق …بقلم / الناقد زكريا صبح …موقع صاحبة الجلالة
أخبارإبداعثقافة و فنونمقال