بداية دعوني أخبركم أنها ليست رواية عادية إنما هي معزوفة رائعة الجمال..
هل شاهد أحدكم فيلمي: (ماتريكس) لـ كيانو ريفز و(إنسيبشن) لـ ليوناردو دي كابريو؟ إن كنتم قد فعلتم فستفهمون مقصدي، أتت هذه الرواية من ذات الماعون العبقري لذلك الإبداع الفانتازي النادر الذي جاء منه هذان الفيلمان..
___________
تتبنى الرواية نظرية (فرانكنستين) والتي تمثل هاجسًا لدى السواد الأعظم من كُتاب وأدباء جيلنا الحالي، حيث تتجلى في تمرد المخلوق (أبطال رواياتنا الذين نخلقهم من العدم؛ فنمحهم أسماء خاصة بهم، وننتقي ملامحهم، ونشكل شخصياتهم وفق أهوائنا) على الخالق (الذي هو نحن معشر الكُتاب).. يتحول الكاتب بمسار أحداث روايته للخيال البديل (Allohistory) حيث يرتكن لافتراضية الــ (ماذا/لو) الشهيرة.. ماذا لو تمردت شخصيات روايتك عليك أنت شخصيًا فأبت أن تسير وفق ما رسمته لها؟ ماذا لو تجسدت أمامك من العدم، وغدت لحمًا ودمًا وقلبًا نابضًا أما ناظريك؟
الحبكة/..
شديدة الروعة..
● تبدأ الرواية بالفصل الأول الذي منحه الكاتب اسم (زهراء الحكيم) إحدى بطلات الرواية، يخبرنا أنه اليوم الخامس والعشرون من العام الأول الساعة 4,55,33..
عدة مشاهد متتابعة وكأنها ومضات تحملنا معها في جريان سريع فنلهث خلفها عبر بضع صفحات، تواجه فيها زهراء وحوشا وحراسا مدججين بقصر بعيد عن العمران فوق أحد الجبال، تستنجد بمن يدعى آدم ولكن دون جدوى، ينهي الكاتب الفصل الأول دون أن يلملم تلك المشاهد فلا نستطيع الإمساك بزمام ما يريده حتى هذه اللحظة، لينتقل بنا للفصل الثاني الذي تبدأ عنده الأحداث في الاتضاح شيئا فشيئا..
● تتناول الرواية (كاتب ما) لا يخبرنا العمل بِاسمه، انتهى من كتابة روايته الجديدة ولكنه يواجه كارثة محققة، ورعبًا تجسد أمامه لا يعرف ملجأ آمنًا للهروب منه، فها هم أبطال روايته يقفون بعناد في مواجهته، ويخرجون من الصفحات لأرض الواقع رافضين المصائر التي أعدها لهم، يريد كل منهم كتابة مخطوطته الخاصة وفق ما يتراءى له، نتعرف معًا على أبطاله الرئيسين(ناجي عاشور النعماني أول أبطاله المتمردين والذي أصبح عدوه اللدود، وزوجته الطبيبة نبيلة حلمي، وشقيقها ممدوح أستاذ علم النفس المهاجر لأوكرانيا منذ سنوات والذي أصبح محاضرًا بجامعة تاراس شيفتشينكو، والتقى هناك بإيلينا مترجمته التي تزوجها بعد ذلك، القبطان عزت أبو المكارم، والعجوز صفي الدين الذي أممت ثورة 52 أملاك عائلته، فاطمة تاج النور أستاذة العلوم السياسية السودانية، وليد ماسين مهندس جزائري، وزهراء مطربة اليوتيوب الشهيرة التي بدأت بها الأحداث، وآدم رجل الأعمال المرموق الذي كانت تناديه في الفصل الأول)..
● يلتقي أبطال الرواية مع كاتب روايتهم عبر تطبيق (كلوب هاوس) والذي نعرف أنه إحدى غرف الدردشة، وتبدأ الأحداث في التصاعد بين ناجي المصاب بمرض عضال عزف الكاتب عن تعريف ماهيته كنوع من الانتقام من ناجي وفق ما يعتقده ناجي شخصيًا، فيبدأ الصراع بينهما بعدما جعله الكاتب غير قادر على معاشرة زوجته نبيلة، وجعلها تلجأ لطلب الطلاق منه، وفي محاولة بائسة لرأب الصدع بينهما يقرران الصعود لسفينة ألف ليلة وليلة والتي يخبرنا كاتب العمل الأصلي أنها تتفوق على سفينة تيتانك نفسها، يصعد معهم للسفينة الكاتب.. وهنا لدينا كاتبين كاتب الرواية التي نحن بصددها الأستاذ (عوني عبد الصادق) والكاتب أحد أبطال الرواية.. فدعونا نركز على هذا الأخير.. يصعد الكاتب للسفينة مع ناجي ونبيلة، والقبطان أبو المكارم، والعجوز صفي، وتبدأ الأحداث في الاشتعال.
● تتشابك أحداث الرواية من خلال الحرب الروسية الأوكرانية التي تحرك الأحداث وفق مجرياتها، وتؤثر عليها بشكلٍ كبيرٍ من خلال ممدوح الذي يشارك في الحرب، والذي كان الكاتب قد أعد له مصيرًا ينتهي بالقتل، تستشف نبيلة شقيقته ذلك المصير القاتم الذي ينتهي إليه ممدوح فتلجأ للكاتب وتساومه على حياة شقيقها، تستعطفه تحت ذريعة إعحابه بها الذي تدركه منذ البداية، وادركه زوجها ناجي هو الآخر مما يجعل رغبته في الانتقام من الكاتب تتزايد.
● يظهر على مسرح الأحداث فيديو لوليد ماسين يعترف فيه بقتله لزهراء التي هام بها حبًا فلم تلتفت له، وتزوجت من آدم رجل الأعمال الشهير الذي أوهمها بعشقه لها، واشترط عليها اعتزال الغناء، ففعلت، وغادرت معه لقضاء شهر عسل بعيدًا عن الأنظار، رغم اعتراف وليد فإن الكاتب لا يصدق ادعاءه هذا ويسعى لسبر أغوار أبطاله جميعهم بعدما غيروا تلك المخطوطة التي دون فيها أحداث الرواية، ليعرف هل قُتلت زهراء بالفعل أم لا؟
● يرق قلب الكاتب لنبيلة التي يميل لها بشكلٍ خاصٍ، ويتراجع عن قتل ممدوح ويجعله يصاب بجراح حادة وقت الحرب أدت لتفشي ميكروب من نوعٍ نادرٍ بين فقرات عموده الفقري تستدعي سفره لروسيا للعلاج.
● يحتار الكاتب بين مشاعره نحو نبيلة التي تعجبه شخصيتها، وتعقلها، ويصفها بملكة النحل التي يحوم حولها كل ذكور الخلية، وبين إحساسه بفاطمة تاج النور التي شعر بحبه لها في أغلب الاوقات كونها رمزًا للصدق الذي يفتقده هو وكل الكتاب من وجهة نظره، والذي أشار لها من خلال عبارته (سأتوقف عن الكذب حين أتوقف عن الكتابة).
● يشتعل فتيل الأحداث بتصاعد وتيرة الحرب الروسية الأوكرانية والتي يخبرنا الكاتب الأصلي (عوني عبد الصادق) بأن أوكرانيا هي حجر الأساس في نظر أمريكا لهدم روسيا وتقويض بنيانها، كما يمرر لنا رسالته بأن العالم بين يدي عصابة مجرمة، وأن كل الحروب تدار، وكل الألعاب تحاك لإبادة سكان العالم حتى يتبقى لهم المليار الذهبي خدمًا لهم.
● يسقط الكاتب في مأزق المنطقة الحرجة حيث يتلاشى الخيال أمام الواقع، ويعجز عن الإمساك بزمام أبطاله؛ فيطلب العون من نبيلة لتساعده في التنقيب خلف قضية زهراء الحكيم، ولكنها تفطن لمساومته لها عن نفسها مقابل إنقاذه لنبيل.
● يساعده صفي بإعارته دفتره الذي كان الكاتب يعتقد أنه يدون فيه مسار أحداثه الجديد، ليتفاجأ الكاتب بأن صفحاته كلها بيضاء، يخبره صفي بأنه توقف عن الكتابة يوم توقف عن الكذب والنفاق، في إشارة منه لأن كتابة التاريخ حدثت بأيادٍ غير أمينة، وأن ما يصلنا منه مزيف وغير حقيقي.
● يخرج وليد من جعبته فيديو يكشف حقيقة مقتل زهراء على يد شادي حبيبها الجديد والذي هو آدم في نسخة أخرى.
● تخرج لنا زهراء في مشهد ختامي عبر فيديو آخر لتنفي قصة مقتلها، وتخبرهم أن الفيديو هو تسجيل أُعِد لإرهابها حال فكرت في خيانة أولئك السادة الذين يحكمون العالم، والذين يحركونها لخدمة أغراضهم ومصالحهم.
تنتهي الرواية هنا في إسقاط على أن كل ما تصدره لنا الميديا غير حقيقي، وأننا نرى فقط ما يريدون تمرريه لنا لنصدقه.
لا يخبرنا الكاتب بما حدث مع ناجي النعماني بعد ذلك، والذي كان يرمز بشخصيته لنا كبشر.. فجميعنا بشكلٍ أو بآخر ناجي النعماني بعجزه ومرضه المزعوم، في تعمد منه لإشعارنا بالمصير المجهول الذي ينتظرنا جميعًا في هذا العالم شديد القسوة.
اللغة/
● جاء السرد بالفصحى الرصينة البديعة تحت نطاق (السهل الممتنع).
● وجاء الحوار بالفصحى أيضًا والذي وظفه الكاتب بشكلٍ رائعٍ خدم العمل للغاية.
ملاحظات طفيفة على العمل/
● تقريبا العمل مدقق بنسبة 90% ولكنه لا يخلو من بعض الأخطاء التي لا بد من تواجدها بأي عمل مهما بلغت درجة إتقانه، كبعض الجمل الحوارية التي ينقص وضع شرطة في بدايتها لتفريقها عن السرد، وبعض الكلمات التي تم ضبطها مرتين فظهرت دائرة أعلى الحرف، كذلك بعض الكلمات التي ظهرت ينقصها بعض الأحرف ككلمة بهيئته، وكلمة واحدة في الفصل الأول كتبت حروفها بشكل خاطىء، علاوة على بعض العبارات التي استعان بها الكاتب من فصول سابقة كنوعٍ من العصف الذهني يلزم وضعها بين قوسين.
أنصح بتسليم الرواية لمدقق أمين يقرأها كعمل روائي بغرض الاستمتاع ليضع يده على تلك الهنات البسيطة ويقوم بها، مع إعلامه بأنها لن ترهقه أبدا عند التدقيق.
● في النهاية هو عملّ ماتعٌ شديد الجمال، استمتعت كثيرًا بقراءته، لم يخالجني الملل عند مطالعته ولو للحظات، وأنصح بتصعيده بشدة وأن يرتقي المراكز الأولى في القائمة القصيرة.
الناقد / محمود عمر
