أيا ما كان رد واشنطن العسكرى على عملية “البرج 22” فى الأردن ، فربما لن يتغير شئ كثير جوهرى فى معادلات اللحظة الفوارة بالمنطقة ، فأمريكا إلى تراجع متصل فى الحضور والنفوذ ، لن يغيره صخب وقعققعة السلاح برا وبحرا وجوا ، بينما إيران فى المقابل ، تحاول استثمار ما جرى ويجرى ، وكسب دور حاكم فى المشرق العربى والخليج بالذات ، بعد نجاحها عبر عقود فى مد حدودها الاستراتيجية إلى شواطئ البحر المتوسط والبحر الأحمر جنوبا .
وافترض جدلا ، أن الرءوس الحامية فى واشنطن ، غامرت فى الحسابات ، وهاجمت البر الرئيسى لإيران ، وهو ما لا يبدو مرجحا حتى ساعة كتابة هذه السطور ، لكنه لا يبدو مستبعدا بالكامل ، خصوصا أن عملية “البرج 22” ، التى تمت بطائرة مسيرة من طراز إيرانى ، أدت إلى مقتل وإصابة عشرات العسكريين الأمريكيين ، وهو ما وضع إدارة الرئيس الأمريكى “جو بايدن” فى حرج غير مسبوق ، مع تعاظم الجدال والمشاحنات بين حزبه الديمقراطى والحزب الجمهورى المنافس ، وتعمد “دونالد ترامب” المرشح الأوفر حظا عن الحزب الجمهورى ، أن يستثمر ما جرى لوضع “بايدن” فى الزاوية الحرجة وقفص الاتهام ، وإظهار ضعفه وتهاونه ، وتركه لجنود أمريكا لقمة سائغة بيد جماعات موالية لإيران فى العراق وسوريا ، وكانت جماعات ولاء إيرانى عراقية ، قد أعلنت مسئوليتها عن الهجوم ، ثم تراجعت “كتائب حزب الله” العراقية فى بيان لاحق ، وأعلنت توقفها عن شن هجمات على القواعد الأمريكية ، وأنها ستكتفى بواجب الدفاع إذا هوجمت ، وهو ما بدا كرجع صدى للموقف الإيرانى ، الذى تنصل علنا من هجوم “البرج 22” ، وأعلنت إيران كالعادة ، أن الجماعات المؤيدة لها ، تتصرف بقرارها المستقل دون إملاء من طهران ، أو مراجعة لها ، وهو ما دأبت عليه إيران منذ عملية “طوفان الأقصى” الفلسطينية ، التى بادرت طهران لنفى علمها بها مسبقا ، وهو ما كان صحيحا باعتراف واشنطن ذاتها ، وإن حاولت إيران أحيانا قطف بعض الثمار ، وادعت دوائر فى “الحرس الثورى الإيرانى” ، أن عملية “طوفان الأقصى” فى السابع من أكتوبر الماضى ، كانت من ردود طهران على اغتيال الأمريكيين لقائد “فيلق القدس” السابق اللواء “قاسم سليمانى” بالقرب من مطار بغداد أوائل 2020 ، وبما استدعى دحضا سريعا من حركة “حماس” ، التى أكدت استقلالية عملها وخططها وشخصيتها كحركة تحرير وطنى فلسطينية ، وكانت النتيجة الفورية ، أن استدركت إيران الخطأ ، وعادت إلى تأكيد نفى صلتها بتدبير “طوفان الأقصى” ، أو العلم المسبق به ، وبدا الكلام منطقيا ، خصوصا مع تتابع الحوادث والعواصف ، وصولا لعمليات اغتيال القائد الحمساوى “صالح العارورى” فى ضاحية “بيروت” الجنوبية ، واغتيال قادة من “حزب الله” وثيق الصلة بطهران ، بل واغتيال عدد من قادة “الحرس الثورى” الإيرانى فى سوريا بغارات إسرائيلية ، واغتيال بعض قادة فصائل عراقية ولائية بغارات أمريكية انتقائية ، ومن دون أن تقدم طهران على رد محسوس مباشر ، تماما كما هو موقفها الفعلى من حرب الإبادة الجماعية فى “غزة” ، وإعلانها أنها لن تخوض حربا من أجل “غزة” ، وإن أكدت على الدوام تأييدها ودعمها لحركات المقاومة الفلسطينية ، وهو ما قد يعنى ببساطة أن أى هجوم أمريكى على أطراف خرائط النفوذ الإيرانى مهما كانت شدته ، لن يلقى بالضرورة ردا مباشرا فوريا من طهران ، ربما حتى لو تضمن الهجوم الأمريكى اغتيالات مباشرة لعناصر قيادية إيرانية ، أو حتى استهدافا مباشرا لمواقع مختارة فى الداخل الإيرانى ، أو تدميرا لقطع بحرية إيرانية ، ناهيك عن إضافة سلاسل عقوبات مالية واقتصادية جديدة على إيران وجماعاتها الرديفة ، وعلى جماعة “حزب الله” اللبنانى بالذات ، وهو أقوى تهديد عسكرى وجودى شمال كيان الاحتلال الإسرائيلى .
وقد لا يعنى عدم توقع الرد الفورى ، أن طهران قد تبتلع ما يجرى دون تعقيب يجئ متأخرا ، فلا تبدو إيران اليوم حريصة على الدخول فى حرب مباشرة واسعة مع واشنطن ، وهو ما يلتقى غالبا مع رغبات إدارة “بايدن” ، التى قد تميل لحصر سلوكها فى ردود متفرقة ، ودون مستوى الحرب الإقليمية الشاملة ، على نحو ما فعلت وتفعل فى هجمات ضد قواعد “الحوثيين” باليمن ، وما تفعله وقد تواصله فى العراق وسوريا ، ورغم التقاء الطرفين الظاهر على عدم التورط فى حرب شاملة ، إلا أن مأزق أمريكا يبدو أكثر ظهورا ، فقد ادعت منذ بدء حرب “غزة” ، أنها تسعى لمنع توسع رقعة الصراع الإقليمى ، إلا أنها تورطت بقواتها وأساطيلها فى توسيع نطاق الحرب فعليا ، بتكوين ما يسمى “تحالف الإزدهار” فى البحر الأحمر ، ومن دون نجاح يذكر فى جذب دول عربية أساسية للتحالف المذكور ، فالدول العربية المعنية لها حسابات أخرى ، ويعتقد بعضها أن وقف الحرب والعدوان “الإسرائيلى” على “غزة” ، هو مفتاح إطفاء النيران متزايدة الاشتعال فى المنطقة ، وهو ما تبدى واشنطن تجاوبا ظاهريا معه ، وإن كانت لا تسعى إلى ضغط حقيقى على حكومة “بنيامين نتنياهو” لوقف حرب إبادة عشرات آلاف المدنيين العزل فى “غزة” ، بل تستمر بالمشاركة الفعلية الميدانية فى حرب شلالات الدماء وزلازل الدمار ، وتزويد ربيبتها “إسرائيل” بكل أنواع الأسلحة والطائرات والقذائف والقنابل الذكية والغبية ، وتسرع فى اتمام صفقة سلاح متطور كبرى للعدو بقيمة 20 مليار دولار ، فيما يبدو “بايدن” عاجزا عن لجم وردع “نتنياهو” ، الذى يورط أمريكا نفسها فى هزيمة استراتيجية فعلية على الأرض الفلسطينية ، وفى انحطاط أخلاقى وعزلة سياسية مخجلة على الصعيد الدولى ، وفى تمرد ضمائر ومظاهرات ملايين غاضبة من بربرية وهمجية الحرب الوحشية ، وهو ما يشجع “طهران” على مواصلة رهانها فى كسب نفوذ مضاف ، وتحمل كل الخسائر المتفرقة على جبهات ما تطلق عليه “محور المقاومة” ، فكلها خسائر تكتيكية لا تعوق الكسب الاستراتيجى ، بل ربما تضيف إليه ، فالأمر متعلق هذه المرة بالقضية الفلسطينية ، والأخيرة لها وزن حاسم غلاب عند شعوب الأمة العربية كلها ، بينما أغلب أنظمة الحكم العربية فى واد آخر ، لا يملك بعضها فرصة الجهر بالعداء المتربص بالمقاومة الفلسطينية وإنجازاتها ، ولا فرصة التبجح برغبات مواصلة التطبيع فى مثل هذه الظروف إلى حد التحالف مع “إسرائيل” ، التى تخذلهم وتفضحهم عند شعوبهم ، ولا تبدى أدنى استعداد للتجاوب مع حلول من نوع “حل الدولتين” ، أو إقامة كيان فلسطينى حتى لو كان منزوع السلاح ، بل يرفض “نتنياهو” وحكومته أى نقاش فى مثل هذه الموضوعات ، ولا حتى على سبيل المناورة العابرة ، وهو ما يضع النظم التى عولت على واشنطن فى قفص الاتهام والانكشاف الكلى ، ويضع أمريكا ذاتها فى خانة بوار الخطط ، وتأكيد العجز حتى عن إدارة الصراع لا حله بالضرورة ، فقد تحطمت قواعد اللعبة المتصلة لعقود قبل “طوفان الأقصى” ، وبانت أصول التحالف المطلق بغير حدود بين واشنطن وتل أبيب ، فيما ظهرت النظم الحليفة التابعة لواشنطن فى حالة صفرية ، وهو ما قد يوسع المجال أكثر لصالح طهران ، التى استأثرت لنفسها بدعوى خدمة قضية الحق الفلسطينى ، والعداء المعلن لكيان الاحتلال ، واستفادت من تخلى أغلب الأنظمة العربية عن القضية ، واستثمرت عقود الضعف والهوان العربى الرسمى ، وملأت فراغا تركته خلفها النظم العربية فى المشرق والخليج ، وتمددت وتمطت فى عواصم عربية تضعضعت أحوالها ، وقدمت نفسها بديلا للهيمنة الأمريكية ، ونسجت بدأب علاقات وثيقة مع روسيا والصين المناهضتين للهيمنة الأمريكية ، ونجحت فى تجاوز والالتفاف على كثير من عقوبات “الضغط الأقصى” الأمريكية ، ودخلت فى منازلات مخفية ومرئية مع “الأرمادا” العسكرية الأمريكية ، أسقطت خلالها أعقد وأغلى طائرة مسيرة أمريكية قبل سنوات ، ثم بدا سلوكها محسوبا بعناية بعد خروج “ترامب” من الاتفاق النووى ، وطورت إمكانات برنامجها النووى ، ورفعت نسب تخصيب “اليورانيوم” فى إطراد ، وباتت جاهزة لصناعة وتفجير قنبلتها الذرية ، مع قفزات برامجها الصاروخية وصناعات طائراتها المسيرة المتنوعة قليلة التكاليف ، وأرغمت بعض خصومها الإقليميين على عقد اتفاقات معها برعاية التنين الصينى ، وهو ما عد تسليما ضمنيا بحقائق جديدة راكمتها إيران بصبر ودأب ، وساعدتها تراجعات مفجعة فى الحالة العربية العامة ، أولها كان غياب مصر عن المشرق العربى بعد عقد ما تسمى “معاهدة السلام” ، وثانيها كان إنفاق عشرات ومئات مليارات الدولارات على حملات تكفير الشيعة العرب ، وتقديمهم كهدايا ومدد لقوة إيران ، وثالثها كان المشاركة العربية فى المجهود الحربى الأمريكى لغزو وتحطيم العراق ، وبما ترك فراغا استراتيجيا موحشا ، تقدمت إيران لملئه ولا تزال ، ودونما حقوق لوم مستحقة للقاعدين على الناهضين فى صدامات الجغرافيا والتاريخ .
[email protected]