عند قراءتي لرواية (ظلال ماري) للكتاب زكي الديراوي وجدتُ هناك عامل مُشترك وترابط رِوائي قصصي على مدار السرد، هو (الخوف من المجهول) .
كان المجهول شريك الكاتب في هذه الرواية منذ بدايتها حتى النهاية، قراءتها أربع قراءات، (شخصياً، سيكولوجيا، بيئياً، ميدانياً)، فوجد من خلال هذه القراءات هذا العامل المُشترك، حيث سرد لنا الكاتب تفاصيل حياة بطل الراوية (فوزي) وجميع الاحداث التي طرأت عليه أثناء مسيرة حياتهِ المجهولة، فمنذُ ولادتهِ والخوف من المجهول كان رفيقاً لهُ، كان أقرب من ظِلهِ اليه، وقد أشرتُ الى بعض المقاطع القصصية من بين صفحات الرواية التي عاشها فوزي بين الخوف والمجهول ..
طبيعة المجتمع الذي يُحيط بهِ أجبرهُ على تحمل الخوف والمجهول على كتفين أتعبهما القدر، الخوف من الغد، واللهاث الدائم المستمر لتأمين أنفسنا مما قد يحمله المجهول بالنسبة إلينا، وعدم الرغبة في التغيير، حتى وإن كان الوضع الحالي صعباً قاسياً يستنزف قوانا الجسدية والنفسية، هي سمة أساسية للبعض منا، لكنهم لا يعرفون أنها أكبر من كونها مجرد سمات شخصية، بل حالة من القلق المُرتقب ويصعب علينا نحنُ كـ كُّتاب أو قُراء أن نفصل أو نستقطع ولو كلمة من هذا السرد، بسبب تلازم المحور الذي يدور بهِ الكاتب في روايته ..
*****
دخولهُ في عالم الخوف والمجهول بدأ منذُ ستينيات القرن الماضي، _أي_ منذُ بزوغ فجرهُ ولادتهُ بهذا العالم، حيث يقول :
(كانت غرابة مولده الذي حدث في زمن مضى من حياة وسجلات مدينة البصرة، (لواء البصرة) كما يُسمى في العهد الملكي العراقي .
عاشه كما سمعه وعرفه بكل أحداثه وأسراره وغرابته هنا … حالة ولادته شبيهة بزراعة نواة نخلة وحيدة في الغربة بين أشجار متنوعة بعيدة في أرض صخرية على جبل دون ماء غير صالحة لزراعة النخيل، ميلاد مجهول التاريخ بالسنة والشهر واليوم والساعة) ص 5
فاتحة حياتهُ مجهول منذُ نزولهُ لهذا العالم، فقد انقطعت صِلتهُ مع والدتهُ منذُ أن قُطع حبلهُ السري، فأصبح مجهول الهوية والمولد، لا يعلم لمن ينتمي في هذا الفضاء الواسع إلا لسيدات مجهولات بالنسبة لهُ حين الولادة كـ أُمهِ ماري و أُمهِ أم ملكة، فَهُنَ أُمهات القدر المحتوم الذي وِلد معهُ، فكانتا نعمة الأُمين …
*****
(متى ولدت وهل المولود أنثى أم ذكر، وهل عاش المولود أم ولد مشوهاً أو معاقاً ؟ أو ربما ولد ميتاً، ومن هي المرأة التي أرضعته هل هي والدته أو غيرها ؟ وهل والدته سالمة أم مريضة أو ميتة ؟ جميع هذه التفاصيل لا يعلم عنها عبد الوهاب والد المولود أي شيء) .. ص 6
حتى زمان و مكان ولادتهِ كان مجهولاً بالنسبة لهُ، ماذا يفعل القدر بهذا الفوزي اليتيم، إيتمهُ القدر بالرغم من وجود ولدهُ _عبد الوهاب_، كذلك أُمهُ بهية التي أعياها المريض ساعة المخاض وحُرمت منهُ بسبب مرضها المُعدي، وقد نُقلت الى مكان آخر بعيد عنهُ وهو في الساعات الاولى من ولادتهُ، فأصبح فوزي ضحية القدر ما بين مرض أُمهُ المُفاجئ و غياب والدهُ المُستمر، أيُّ يُتم، أيُّ قدر، أيُّ مجهول، والخوف حليف هذه الصفاة الثلاثة …
*****
(وضع حاجم سلطان الطفل ابن أخته الذي كان عمره أقل من الشهر بعدة أيام بالمقعد الخلفي للسيارة وانطلقت السيارة مسرعة تحمل معها طفلاً لا يعرف ولا يدرك ولا يرى مصيره أو لأي درب يتجه به القدر، يهتز كله من مطبات الشارع تارة يصرخ ويبكي وأخرى يخفت صوته) … ص 24
أتصور إن هذا المشهد قد نُصدقهُ حينما نراه بأفلام السينما أو ببعض برامج المقالب المُنظمة مُسبقاً، أما في الواقع يصعب علينا كبشر أن نصف هكذا موقف لِطفل عُمرهُ بعض أسابيع … حينما قرأت هذه القطعة من الرواية إنتابني الإستغراب كثيراً، كما راودني الخوف أثناء القراءة أسرعت كثيراً بتقلُب الصفحات لعلي أصل لحد نجوى هذا الطفل الذي اصبح حتى مجهول الحياة والمصير وهو يتعثر مع المطابات _الطسات_ التي تمشي عليه عجلة القدر المكتوب، ثم استشعرت بعدم لا مُبالات خالهِ _ حاجم سلطان_ ذلك الذي لا يملك شيءً من الرحمة وهو يجوب به من عالم المطبات الى عالم الواجبات البوليسية _الشرطة_، ما هذا القدر يا فوزي ؟؟؟
*****
(قالت بهية : لا أظنّ أنّ في صدري حليباً رغم أني اشعر كأن قلبي ينبض حنيناً مخزوناً داخله … هذا ما قالته بهية سلطان وقلبها يتفطّر حسرة والدمع ينهمر من عينيها) … ص 48
غريزة الأُمومة كفيلة بشعور إحتياج رضيعها للبن، فهذه فطرة سماوية وضعها الله لكل أُم، فما قالته بهية هو بيان وجودي حينما درَ حنينها المخزون لذلك الرضيع المجهول، فلا أنا و لا حتى الكاتب _زكي الديراوي_ قادرين على وصف تلك اللحظة التي مرت بها السيدة بهية ..
*****
الصدمة الطفولية الأولى
(طبعت هذه الصورة المرعبة في ذهنه كما ظلت مطبوعة بعقل جبار يحملها معه يتذكرها بخوف كلما سمع بالختان، تلك القصة علقت بعقله كما علقت بعقل فوزى الطفولي، لذلك عندما أخبر فوزي صديقه جبار أن يوم غد سيتم ختانه مع أخيه وبعض الأطفال من الأقارب والجيران .. قال له جبار : لا تقبل باقتطاع لحمة منك، لماذا يقطعونها، لمن يعطونها للقطط المتوحشة ..؟) … ص 71
لم يكن القدر والخوف والمجهول وحدهم من يراودوا مسيرة فوزي المُعتمة، فهناك من زاد الطين بله، هم : تخارف جبار الطفولية، والقصة التي رواها لـ فوزي وزرع فكرتها في رأسه، وتلك القطط التي تُراوده فوزي على بقايا شيء من لحمتهِ المقطوعة، ياااا لِحظك يا فوزي ….
*****
في ص 85، دخل لـ فوزي بطل غريب أو ثالث غريب أو جسد غريب على الرواية أو على عالمهِ المجهول، عالم فيه المُتعة والتلذذ، كما فيه الدهشة و الإستغراب، وكيف لا !!!
عالم الجسد الأُنثوي، المُمتلئ بالشجن والحُزن والرغبة والإحتياج، جسد رِوائي جديد يقـتحم ذلك الفتى، طفولي الملمس لا يخلو من مُميزات الرجولة الواضحة، لكن تربيتهُ وتعاليم دينهُ التي تربا عليها من والدتهُ، تلك السيدة الصوفية المُقيمة في حضرة السماء أكثر من بِقاع الأرض، منعتهُ من شهوانية مؤقته، أو لعقة زائفة المذاق ..
(مشاعر إنسانية افتقدتها من سنوات قربت فمها من فمه، لم يعرف ماذا يفعل ربما هي قبلات مثل ما كانت تقبله والدته لكن والدته لم تقبله بفمه امتصت منه أشياء لم يعرفها ممزوجة بالحسرات والتنهدات طعمها مشتعل الشوق والنقص والعطش رغم شدة البرد … لحظات نزعت عنه كلّ البرد والخجل، أصابه بعض الخوف إنها سوف تلتهمه كما التهمت قطة جبار لحمته العزيزة، يجهل ما تفعله بصراع لم يجربه ولم يدخله من قبل تريد إدخاله لنفق مجهول تتفوّه باهات وكلمات لا يفهمها، غير مترابطة تضيع منها حروف كثيرة بسبب انشغال الفم بالالتهام وتقطع الأنفاس، شعرت به يحاول التملص من أخطبوط أصابعها المجنونة) .. ص 85
حقيقة حاولت إستقطاع بعض الشيء من هذه القطعة لكني أحسستُ أيِّ إستقطاع منها سوف يُشوهُ المعنى عند القارئ، لأن هناك ترابط بين (تلتهمه كما التهمت قطة جبار لحمته العزيزة)، فهذه هي نقطة الإلتقاء بين اللحمتين اللواتي خاف يفتقدهما، (لحمة ذكرهِ، ولحمة الشفاه)، فكان الخوف من الفقدان كفيل بأن يجعلهُ يتحذر دائماً، أو كانت عُقدة الخوف من المجهول أو سوف ما يحدث تُراودهُ طلية طُفولتهُ المجهولة ..
*****
كريمة :
- (فوزي أشتهيك ولا أعرفُ ماذا أفعل، وأنت تهمل مشاعري وحاجتي ولا تعمل مثل عبد الحليم، هل أنا لست جميلة ؟، حرام عليك أريد منك قُبلة أشعر بها …. نظرت إليه، يقف كالصنم، دمعت عيونها وخرجت مُسرعة دون وداع ولم تقل إلى اللقاء بل ردَّدت أنت دون إحساس … فوزي يعيش الحيرة بين وصايا والدته وبين رغبات مكتومة بين الرغبة والتردّد من خوف زرعته قطة كبيرة لا يعرف لليوم ماذا اقتطعت منه .. ص 118
كل شيء في جسده كامل النضوج تقريباً لكنه يجهل أحاسيسه الداخلية، لا يعرف كيف يوظفها أو كيف يستخدمها، ولا يعرف شيئا عن تفاعلات وانقلابات وطلبات الجسد اللاحقة بعد القبلات لأول مرة يشعر بها داخل أعماقه إنها حرارة وغليان في دمه وتحت أضلعه ومنطقة حساسة يجهلها ويجهل كيف يتم إخمادها) .. ص 119
في هاتين الصفحتين 118، 119، يقف فوزي على خط التسلل، حائر بين أمرين، (الحيرة بين وصايا والدته وبين رغبات مكتومة)، لكن عالمهُ المجهول كان حاضراً في وقتها (ولا يعرف شيئا عن تفاعلات وانقلابات وطلبات الجسد اللاحقة)، رغم تعدد الفرص التي طالت فوزي بطل الرواية، لكن شعورهُ بما يفعل أو لا يعلم أو يعرف أو كسر الظهر والهلاك أو وصايا أُمهُ الطاهر أو الدخول الى جسد النساء اللواتي يرغبنَ به وهو يجهل كيفية إستقبال تلك الأجساد المُحملة بكميات هائلة من الرغبة والشهوة والتشهي، فوزي يفلح فقط بالنظر، وفكرت الخوف تُرادوهُ في كل حين، حتى قُبلات عبد الحليم حافظ التي أصابت كريمة بالهيجان لم تُحرك شعرة من شاربهُ السُفلي، لكنهُ أخيراً أيقن بأن (أسرار جسده أكبر منه بكثير، فكيف بأسرار جسد المرأة الكثيرة والمُعقدة ؟ هل هو الجنس الذي لم يعرفه أو يجربه) … ص 129