المنبوذ المثقف
بقلم: محسن عتيق خان
(رئيس تحرير مجلة أقلام الهند
“يا أماه، يا أماه، دع أمي، دع أمي”
طفل يبكي ويصيح بأعلى صوته ويجري بأقدامه الصغيرة خلف امرأة تمشي متثاقلة في وسط حشد من رجال القرية وتتعرض كل لحظة للضجر والتوبيخ، والدفع والضرب، والسب والشتم. كان في أيدي بعض الأوباش أحذية، وكان البعض يحملون العصي، وكان البعض الآخر قد فك حزامه يضرب به هذه المرأة المسكينة، والذين لم يجدوا شيئا فضلوا أن يستخدموا أرجلهم لركلها. فكلما تحاول أن تتوقف أو تقعد، يدفعونها من الخلف دفعا شديدا بالضرب المبرح. كان جسدها الأسود النحيل قد احمر وتورم من هنا وهناك بسبب الضربات الشديدة، وكان الدم يتقاطر من جروحها العارية. عندما رأى أحد منهم ولدها يحاول أن يقترب منها دفعه دفعا شديدا حتى اصطدم بجرار واقف في جانب الطريق وأغمي عليه. إنهم مضوا في الطريق وطافوا بها في أزقة القرية حتى جعلوها تمثل أمام عمدة القرية الذي كان جالسا في فناء بيته الكبير مع بعض أتباعه. وما إن رآها حتى اشتعل غضبا وصاح بأعلى صوته:
“يا لقيطة، هل تعرفين لماذا جعلناك تطوفين عارية في القرية، لأن ابنك الحرامي تجرّأ أن يدخل معبد القرية الكبير، ألا تعرفين، باب هذا المعبد مغلق منذ عصور قديمة على الطبقة الدنيئة، فلا يجوز لهم حتى كنس حرم المعبد، ابنك الحرامي لوث معبدنا واقترف جريمة لا تغتفر، سنعذبه عذابا لا يوصف، سنقتله ونعلقه في هذه البئر ونترك نعشه حتى تأكله النسور. وأنت ستبقين عارية إلى أن يعود، وليس هناك من يتدخل في أمرنا.” قال ذلك ثم ألقى نظرة عابرة على حشود الناس حوله واستمر قائلا: “وعليك ألاّ تفكري في الذهاب إلى الشرطة، فأنت تعلمين أن الشرطة لا تستطيع أن تتدخل في قريتنا دون إذني. ابنك الخسيس قضى بعض السنوات في مدينة وتعلم بعض الحروف فظن أنه أصبح مثقفا وبلغ مستوانا، كيف خطر شيء من هذا النوع على باله، ألا يعلم، نحن وُلِدنا من فم الإله وأنتم وُلدتم من قدميه لخدمتنا. تذكري يا رذيلة، نحن لا ندعه يهرب، بل سنذيقه أنواع العذاب لم تكن في حسبانه، وتذكري، سينال عقابه حتما.”
إنها لم تستطع أن تلفظ حتى كلمة من فمها، وعندما انتهى العمدة من كلامه وطلب من الناس أن يخلوا لها الطريق، توجهت إلى بيتها عارية، مطأطئة رأسها طوال الطريق بين سخرية الناس واستهزائهم المستمر، ومتأوهة من وجع الجروح والضربات، كان حشد الناس قد انفض، ولكن بعض الأطفال لا يزالون يتبعونها. رأت زوجها جالسا على عتبة البيت وبعض رجال طبقتها يواسونه، فأدركت أنه علم كل شيء ولكن لم يستطع أن يفعل شيئا، وماذا يمكنه أن يفعل، فهو ليس إلا عاملا من عمال الحقول، و مثل رجال الطبقة المستخفين الآخرين. ولم يتجرأ أن يقول شيئا عندما اغتصبها عمدة القرية وهي كانت حديثة العهد بالزواج وذهبت إلى الحقول لزرع نبات الرز لأول مرة، فلعل كل نوع من الإهانة قد كتبت لطبقتها لأن رجالها لا يعرفون المروءة ولا يدركون لذة الحرية. وما إن اقتربت إلى البيت رأت ابنها الصغير مستلقيا على السرير بدون حركة وتحيطه نسوة الحي، فنسيت كل آلامها وأجهشت بالبكاء إجهاشا، فقد كانت رأت أحدا من رجال القرية يدفع ابنه الذي اصطدم بالجرار، وأرادت أن تذهب إليه وتحتضنه ولكن لم يدعها أحد أن تفعل ذلك. وتذكرت أن هذا الابن الذي لا يزال في السابعة من عمره كان يأكل الرز البائت مع الشاي في الصباح عندما دهموا بيتها في البحث عن ابنها الأكبر، فأخذوها وجروها إلى الخارج وعروها من جميع ثيابها ثم حدث ما حدث. تلاقت عيناها بعيني زوجها فرأته يسرع إليها وما إن وصل لدى السرير ضمها إلى صدره بعد أن ألقى عليها رداء ثم بكيا طويلا حتى جفت عيونهما، وكان رجال طبقتهما قد أعدوا كل شيء للتكفين وعندما رأوا أن العاصفة قد هدأت دفنوا هذا الغلام المعصوم في ناحية من نواحي الحي المنعزل عن القرية.
كان رجال الحي والنسوة قد أووا إلى بيوتهم بعد غروب الشمس، فبقيت هي وزوجها في البيت وحدهما، كانت لا تزال تتأوه من الألم إذ كان كل عضو من أعضاء جسمها يتوجع ألما، فكأنها تستلقى على جمرة من النار. وزوجها الذي كان جالسا على سريره أدرك ألمها فأعد لها دواء محليا بسحق جذور الكُركُم ومزجها بزيت الخردل ثم قام بتدليكها على جسمها ليخف الألم وتلتئم الجروح. وعندما شعرت بقدر من الراحة بدآ يتحدثان عن ابنهما الأصغر الذي مات، ثم عن ابنهما الأكبر الذي رجع بعد اغتراب حوالى سبع سنوات، وأتى عليهما بهذه المشكلة وأدخلهما في مأزق بتحمّسه الشديد للحصول على حقوق متساوية لأبناء طبقته.
كانت تحب ابنها ولم تمنعه قط من جراءته، وكانت تفهم الإشارات الغامضة لنسوة الحي، فكنّ على إلمام بأن عمدة القرية اغتصبها لا مرة بل مرارا و لذلك ينسبن هذا الولد إليه إذ أن جلده أقل سواداً مقابل رجال طبقته. ولا بد للدّم من أن يظهر لونه، وحدث ذلك عندما كان في الخامسة عشر من عمره فلم يستطع أن يرى أباه يُضرب أمام عينيه فأخذ عصا و ضرب به ابن عمدة القرية الذي كان يضربه بحذائه بدون هوادة لشيء تافه فأغمي عليه. رآه أبوه بامتنان ولكن خاف عليه فالتمس منه أن يغادر القرية للبقاء على حياته.
فر من القرية هائما على وجهه، فلم يكن يعرف إلى أين يتجه، وعند غروب المشس وجد نفسه عند محطة صغيرة للقطار. كان مبنى المحطة يتكون من غرفة وقاعة صغيرة، وعندما صعد السلم رأى ناظر المحطة يجلس في الغرفة ويعطي التذاكر لبعض المسافرين، ورأى حارس المحطة يضيئ شمعة زيتية ويضعه على شمعدان عال. جلس على مقعد إسمنتي خال ليستريح قليلا ويتنفس الصعداء فشاهد قطارا قد وقف على الرصيف والناس يسرعون في ركوبه، ولم تمض بضع دقائق على جلوسه إذ سمع صفير القطار وعند ذلك أدرك بأن الرصيف قد خلا من الناس فهرول إلى القطار و تعلق بمقبض باب إحدى عربات القطار مثل بعض أناس آخرين ركبوا القطار عندما اكتظت عرباته. بعد حوالى ساعة عندما نزل عدد من الركاب في بعض المحطات نجح في الحصول على مكان للجلوس لدى المرحاض وبدأ يفكر ويسأل نفسه ماذا سيفعل؟ وإلى أين سيذهب؟، وماذا سيأكل؟،… ولكن لم يكن لديه جواب، وهكذا مضى حوالى ست ساعات ولم تنقطع سلسلة الأفكار إلا عندما توقف القطار في محطة كبيرة وبدأ عدد كبير من الركاب ينزلون من القطار، فنزل مع الناس إذ سمع أحدهم يقول “قد وصلنا كانفور”، فبدا اسم مدينة كانفور مألوفا لأذنيه، وتذكر أن ابن أحد جيرانه يعمل في مصنع من مصانع هذه المدينة التي تعرف لمنتجات الجلد. عندما خرج من بوابة المحطة أول شيء احتاج إليه هو لقمة من الطعام فكان يشعر بجوع شديد إذ لم يأكل شيئا منذ أمس، ولكن ماذا يأكل؟ وكيف يأكل؟ ليس لديه مال يشتري به الطعام، ففكر للحظة وأراد أن يصبح متسولا ولكن من سيعطيه الروبية، إنه لا يدري كيف يسأل الناس، وكيف يصر على التسول، وبينما كان حائرا إذ رأى عددا من المتسولين والعاملين يجلسون عند مطعم متفائلين وفي انتظار بعض المتصدقين الذين يدفعون لأخبازهم، فجلس معهم وأكل معهم ونام معهم على ممر المشاة.
في الصباح التالي قام مع العملاء فوجد عملا لتشييد مبنى بيت، فكان يحمل اللبن والإسمنت ويساعد البناء وهكذا مضى أسبوع ثم شهر وتم التشييد، وفي آخر يوم جاء صاحب المكان لتوزيع الرواتب فمدح عمله الجهيد وعرض عليه أن يبقى في هذا المبنى ويعمل له فقبل العرض وأخذ السكن في حجرة لدى بوابة المبنى. كانت أحواله قد تغيرت الآن، فكان عنده الروبيات للإنفاق، والطعام للأكل، وغرفة للسكن، وكان صاحب البيت رجلا كريما فكان يعامله معاملة الأب لابنه، ولم يعهد إليه إلا اشتراء الحوائج الضرورية من السوق، وحراسة البيت، وهيأ له مدرسا خاصا يدرسه المبادئ ويؤدبه ويعلمه، فتعلم أشياء كثيرة بما فيه اللغة الهندية، وقليلا من اللغة الإنجليزية، وتعرف على ماهو القانون، وما هي حقوق الناس في البلد، وكيف تعمل الحكومة. أمضى في خدمة هذا الرجل حوالى سبع سنوات ثم عزم على العودة إلى قريته إذ ازداد حنينه إلى الوطن، وشوقه لرؤية أبويه.
كان قد غاب ولدا وعاد شابا متحمسا، فيجلس إلى رجال طبقته ويخبرهم عن حقوقهم المتساوية، وعن العدالة التي تضمن لهم القانون، وعن الفرص المتوفرة في المدن، ويحرضهم على النهوض ضد الظلم على أنفسهم. وعندما احترقت بيوت الحي في شهر يونيو وجد الفرصة ليزيل النقاب عما يجري من المؤامرات ضدهم فأشار إلى مؤامرة عمدة القرية في إحراق البيوت وقال ذلك علنا في وجهه أمام حشد من الناس عندما جاء لتوزيع حفنات من القمح متظاهرا تعاطفه معهم. ثم اجترأ ما لم يجترئ أحد من طبقته وهو دخوله في معبد القرية الكبير الذي يختص بالبراهمة فقط، وهذا شق على رجال القرية فتجاوزوا كل حدودهم في الظلم والتعذيب، ولو وجدوه لقتلوه في حينه.
فذات يوم استيقظ مبكرا في الصباح وتوجه إلى معبد القرية الكبير إذ كان قد قرر أن يدخله كائنا ما كان ويمثُل أمام الإله ويحكي له ما تعاني منه طبقته من الظلم والتعدي، وربما سبب كل هذه المعاناة والاضطهادات هو عدم وجود الفرصة لطبقته للحضور أمام الإله الكبير المنصوب في هذا المعبد وإخباره بما يجري في المجتمع. عندما وصل أمام المعبد الفخم وجده ساكنا في ظلام الليل الحالك، الذي كان قد بدأ يغيب شيئا فشيئا، والمشعل الخشبي الذي كان ينور باب المعبد منذ أول الليل بدا كأنه يذوب ويتضاءل نوره، إذ مص آخر قطرة من زيت خشب الصندل، كانت الطيور قد بدأت تستيقظ وتغادر وكورها في البحث عن الرزق، فعندما رفع رأسه إلى السماء وجد قطيعا من العصافير يطير على المعبد. تنفس عدة أنفاس عميقة ليتغلب على ارتعاشه فهذا إقدام لم يتجرّأ عليه أحد من أجداده رغم سلوك البراهمة غير الإنسانية معهم على مدى قرون كثيرة. كان متأكدا من أنه إذا قُبض عليه فسيُقتل، ولكنه كان قد عقد العزم على قراره، فبدأ يتسلق الأدراج أولا ببطء ثم بسرعة فائقة حتى وصل أمام باب المعبد الخشبي الذي كان موصدا بسلسلة حديدية قد اكتست بعض الصدأ. فتح الباب بخفية فاستقبلته رائحة الأزهار الذابلة التي كانت قد عُرضت على المعبد بالأمس، إنه حدق في الظلام مرتعشا ومقشعرا، ودهش من رؤية الصنم الرخامي الكبير الذي يقوم في وسط قاعة المعبد على مربع كبير. هذا هو الإله راما الذي يعبدونه البراهمة، وهذا هو الإله الذي يعبده أبناء طبقته ولكن هناك فرق كبير بين العبادتين. فللبراهمة امتياز لحرس هذا المعبد، وسعادة برؤية هذا الإله بينما هذا المعبد ممنوع الدخول حتميا على طبقته التي تعتبر منبوذة. لماذا هذا الفرق، ولماذا هذا التمييز بين عباد الإله نفسه. فكر قليلا ثم وقع في سجدة ووضع رأسه بين قدمي هذا الإله ثم بدأ يتضرع ويبتهل إليه، ويقص له قصة طبقته المعذَبة، ومعاناتها غير الإنسانية، وقد كان غرق في الابتهال إلى أن نسي أنه وضع نفسه في موضع هلاك بدخول هذا المعبد الذي هو محرم عليه ويجب أن يكون على حذر، وأدرك ذلك عندما سمع صوت الأقدام خلفه. قام فجأة فوجد نفسه وجها لوجه لكاهن المعبد الذي تجمد في مكانه مدهوشا بهذه المفاجأة للحظة بدون أن يفرط من فمه كلمة، ثم أدرك ما حدث آنفا وبدأ يصيح بأعلى صوته “قد دخل ابن الحرامي معبدنا، قد لوث معبدنا، قد مس إلهنا.” إنه ألقى نظرة على الكاهن ثم أسرع إلى الباب، وقطع الأدراج بسرعة فائقة ثم جرى بكل ما كان استطاع من السرعة إلى خارج القرية في البحث عن ملاذ آمن.
كان حائرا ولا يدري أين يخفي نفسه للبقاء على حياته، فقد أثار حفيظة رجال القرية من الطبقة الأولى، وإن لم يفر عن القرية فورا لقتله الناس من حينه. والآن أدرك أنه أخطأ إذ لم يخبر أبويه بخطته هذه، وعرف أنه قد جر على أبويه مصيبة أعظم من الأولى. إنه ظل يتخبط لساعة حائرا هناك وهناك في نواحي القرية حتى تذكر مكانا كان يختفي فيه في أيام طفولته كلما فر من البيت خوفا من أبيه، وكان ذلك شجرة بيبل العملاقة الواقعة في الجانب الشرقي للقرية على بعد حوالى كيلومتر منذ أكثر من قرن إذ لم ير أحد من أناس القرية الأحياء هذه الشجرة إلا كما هي الآن بدون فرق. كان لها جذع كبير توجد حولها أصول تربط أغصانها ذات الأوراق الكثيفة بالأرض وترسخ هذه الشجرة رسخا. ألقى نظرة حوله للتأكد من أن لا يراه أحد، وعندما لم يجد أحدا على مدى بصره تسلق الشجرة بسرعة فائقة مثل القرد وأخفى نفسه على الشجرة من حيث يرى ما حوله ولا يراه أحد. ومن هنا استطاع أن يرى الطريق الذي يحيط قريته من جانبي الشرق والجنوب قبل أن يستوي عند النهر. كان يقظا وكل وقت على حذر ومستعدا لمواجهة كل نوع من الخطر، وبعد حوالى ساعة رأى جما غفيرا من الرجال يدفعون امرأة أمامهم، ففهم كل شيء ولكن لم يتجرّأ أن ينزل من الشجرة، و بقي عليها طوال النهار عطشان وجوعان حتى غربت الشمس ومضى بعض الليل، فألقى نظرة عميقة على القرية التي كانت ساكنة وغارقة في الظلام، ونزل من الشجرة ولكن كان قد قرر قرارا حاسما آخرا لصالح طبقته.
كانت الليلة حالكة وكانت القرية كلها تغط في نوم عميق، وفي هذا الظلام اقترب إلى أول بيت في القرية في الجانب الشرقي، وعندما تأكد من أن أصحاب البيت قد ناموا تقدم إلى البيت الفخم لعمدة القرية، ألقى نظرة على البوابة، ثم دار حول هذا البيت دورة كاملة حتى وصل أمام الباب مرة أخرى. فكر قليلا ثم تسلق البوابة بلطف ونزل في صحن البيت. كان الصحن كبيرا جدا، في ناحية حظيرة البقر، وفي جانب آخر بئر لتوفير الماء. كان في وسط الصحن سريران على الأول ينام رجل عجوز ذو جسد هائل وعلى الآخر رجل شاب نحيل. كان كلاهما ينامان غافلين عما حولهما وكان بين السريرين عصا ملقى على الأرض لإبعاد حيوان مؤذ إذا اقتضت الحاجة. إنه اقترب وقام بين السريرين وعندما تأكد من أن الرجل الهائل هو عمدة القرية، أخذ العصا بيده واستقام، ثم سدده على رأسه وضربه بكل ما كان في ذراعيه من قوة. لم يخرج من فم العمدة إلا صراخ خفيف تبعه تململ للحظة ثم سكوت مخيف، كان ابنه قد استيقظ بصراخه ولكن لم يستطع أن يلفظ كلمة بسبب الحيرة والدهشة، وعندما رأى ابن العمدة يقظا، سدد العصا على رأسه و ضرب بكل قوة بدون أن يعطيه فرصة لحظة للنطق. ألقى نظرة حوله ثم جر الجثتين واحدة تلو الأخرى إلى البئر وربط رِشاء البئر حول عنقيهما وثم سحب الرشاء عن طريق عجلة البئر وألقاهما فيه وعلقهما بالحديد الذي يربط عمودي البئر من الأعلى، وبعد إنهاء هذه المهمة توجه إلى الباب مسرعا ولكن بخفية.
كان أبويه لا يزالان يتحدثان عن ابنهما عندما سمعا قرعا خفيفا على باب البيت، وصوتا يهمس لفتح الباب، فعرفت صوته وأشارت إلى زوجها أن يفتح الباب الذي كان يرتجف من الخوف. دخل البيت بوجه متهلل تهلل الفاتح المنتصر، ولكنه كان فزعا فقال لأبيه بصوت فخور: قد قتلت العمدة، انتقمت منه لأمي، والآن نغادر القرية معا بدون تأخر، يا أمي، قومي من الفراش قبل أن يعرف أحد مصرعه، ويداهم أهالي القرية بيتنا، كنت أريد أن أخلق بعض التغيير في المجتمع ولكن لم أستطع، فالمجتمع ميت وطبقتنا ميتة لا شعور لدى رجالها المنبوذين بحرمانهم من الحرية والعدالة، والحقوق المتساوية، لست أدري كم وقتا سيأخدون ليكونوا أناسا ذوي كرامة، لعل قرنا أو قرنين أو أكثر من ذلك.”
عندما تأكدوا من أنهم خرجوا من القرية ولا يلاحقهم أحد، ألقوا نظرة أخيرة على بيتهم من بعيد بعيون باكية ثم هرعوا إلى مكان غير معلوم.