قد لا تبدو من نهاية وشيكة لحرب الإبادة “الإسرائيلية” الجماعية ضد الفلسطينيين فى “غزة” ، لكن أحاديث النهايات ليست متوقفة فقط على ما يقال عنها ضغوطا أمريكية ، ولا على مفاوضات ووساطات التسويات الجارية فى “القاهرة” أو من “الدوحة” ، بل مرتبطة بالضرورة وأساسا بمجرى العمليات الحربية ، وبمقدرة المقاومين الفلسطينيين على دفن حرب “بنيامين نتنياهو” رئيس وزراء العدو ، وإحباط أهدافها المعلنة عسيرة التحقق ، ومضاعفة الضغوط على الداخل “الإسرائيلى” لوقف الحرب والعدوان .
بعد أيام تقترب الحرب من نهاية شهرها الثالث ، ومن دون أن يحقق العدو الأمريكى ـ “الإسرائيلى” شيئا مما حلم به ، كان العدو يتصور أنها فقط فسحة أيام أو أسابيع ، وتتحقق أهدافه كلها فى غمضة عين ، وتزول حركة “حماس” وأخواتها ، ويعود الأسرى الإسرائيليون والأمريكيون بالقوة المسلحة ، وتنفتح الطريق لإنشاء إدارة موالية للعدو فى “غزة” ، ولم يدخر العدو شيئا كان بوسعه ، وصب قوة نيران هائلة بدمار نووى على رأس “غزة” الصغيرة فى مساحتها ، والمختنقة من كافة جهاتها ، ومن دون أن ينجح إلا فى جلب زلازل الدمار وتفجير شلالات الدماء وتقطيع الأشلاء البشرية ، وعلى نحو أوسع وأعنف مما شهدته أى حرب معاصرة أو حديثة ، فقد جاوز دمار “غزة” ما حدث للمدن الألمانية فى نهايات الحرب العالمية الثانية ، هذا إذا أخذنا معامل الزمن النسبى فى الاعتبار ، إضافة لدفع ثلثى سكان “غزة” إلى النزوح جنوبا ، وتحويل أكثر من ثلثى المبانى ـ خاصة فى الشمال ـ إلى أنقاض ، ومن دون أن يستثنى القصف الهمجى مسجدا ولا كنيسة ولا مدرسة ولا مستشفى ولا مخبزا ولا محطة تحلية مياه ، فضلا عن استشهاد وجرح ما يزيد على ثمانين ألف فلسطينى إلى اليوم ، غالبيتهم العظمى من الأطفال والنساء ، مع إشاعة غوائل الأوبئة والجوع بين من بقوا على قيد الحياة ، وإلى حد بالغ الكارثية غير المسبوقة ، لخصه “أنطونيو جوتيريتش” سكرتير عام الأمم المتحدة فى عبارة صادمة حزينة ، لم تجد صداها ، فقد قال “جوتيريتش” ببساطة مرعبة ، أن أربعة من بين كل خمسة أشخاص هم الأكثر جوعا فى الدنيا كلها من أهل “غزة” ، ومن دون أن تجد صرخة الأمم المتحدة انتباها دوليا كافيا ، وكان التحرك الأخير اليتيم لمجلس الأمن فى القرار الموسوم بزيادة الإغاثات الإنسانية للمنكوبين ، وتعيين مبعوث أممى لتوسيع نطاق المساعدات ، ومن دون إلغاء شرط التفتيش “الإسرائيلى” المعرقل لتدفق وعبور الشاحنات ، وهو ما دفع “جوتيريتش” نفسه إلى إعلان الاحتجاج ، وقال ما معناه أنه لا يمكن نجدة أهل “غزة” بدون وقف فورى ودائم لإطلاق النار ، وهو ما لا تؤيده واشنطن إلى اليوم ، وتقف وحدها معزولة عن الحس النامى للمجتمع الدولى ، كما بدا فى اتجاهات التصويت الغالبة فى الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولى ، التى بدت فيها واشنطن بوضع منبوذ متعجرف ، لا يهمها سوى مصلحة “إسرائيل” ، فلهذه “الإسرائيل” حكومتان ، واحدة فى فلسطين المحتلة والأخرى فى واشنطن ، والحكومة الأخيرة تدرك أكثر عمق المأزق الراهن ، وما جرى من تدمير شامل لسمعتها الدولية ، وتجريف كامل لمصداقيتها المكذوبة ، سواء فى الميدان الحربى ، الذى قدمت إليه كل ما تملك ، وحشدت لأجله أكبر حاملات طائراتها ومدمراتها النووية فى المنطقة ، وسيرت قوافل وجسور إمداد جوى وبحرى بأحدث الأسلحة وأضخم القنابل الفتاكة الذكية والغبية إلى “إسرائيل” ، وشاركت فعليا فى التخطيط لمعارك “إسرائيل” فى “غزة” ، إضافة لطائرات “الأواكس” والمسيرات المتطورة لمراقبة “غزة” كلها ، وإرسال قوات “دلتا” الخاصة ومشاة البحرية على حواف جغرافيا القتال ، ومن دون أن يؤدى الحشد الأمريكى الرهيب إلى نجدة مؤثرة لجيش الاحتلال ، الذى تفاقمت خسائره فى الضباط والجنود ، وصارت بالمئات تلو المئات فى حدود ما يعلن عنه الجيش نفسه ، إضافة إلى نزيف متصل فى العسكريين الإسرائيليين المصابين بجروح وإعاقات خطيرة ، وقد وصل عددهم إلى ما يفوق 11 ألفا باعتراف الإعلام الإسرائيلى نفسه ، واضطرار العدو إلى سحب قوات من “لواء جولانى” ، وهم نخبة النخبة من “غزة” ، فى هزيمة عسكرية مشينة ، اعترف بها قادة العدو نفسه من كبار الساسة والجنرالات ، ومن رؤساء الوزارات السابقين على طريقة “إيهود أولمرت” و”إيهود باراك” ، ومن جنرالات سابقين شاركوا فى قيادة حروب “إسرائيل” العدوانية السابقة ، بينهم نائب رئيس الأركان “الإسرائيلى” السابق “يائير جولان” و”دان حالوتس” رئيس الأركان الأسبق ، وقد قالوا مع غيرهم بوضوح ، أن “إسرائيل” خسرت الحرب ضد “حماس” منذ هجوم السابع من أكتوبر المزلزل إلى تاريخه ، وأن معدلات الخسائر اليومية لجيش الاحتلال غير مسبوقة منذ عقود ، وأنه آن الأوان للاعتراف بالحقيقة ، وهى أنه لدى “إسرائيل” اليوم جيش ضعيف واستخبارات عظيمة الفشل ، بل وحذر الجنرال “حالوتس” من حرب أهلية فى “إسرائيل” بسبب ميليشيات “بن غفير” وزير الأمن القومى الإسرائيلى الأكثر تطرفا وسوقية فى الحكومة القائمة ، وقال أن الانتصار الوحيد الممكن لإسرائيل يكمن فى إزاحة “نتنياهو” ، الذى يستمسك باستمرار الحرب لحسابات شخصية ، ولمعرفته الأكيدة أن يوم توقف الحرب هو يوم نهاية سيرته السياسية الطويلة ، وانتقاله إلى مزابل التاريخ ، إما بالذهاب إلى السجن فى قضايا فساد وتحايل ، يبدأ نظرها قضائيا فى فبراير المقبل ، أو فى تحميله مسئولية إذلال “إسرائيل” فى هجمة السابع من أكتوبر ، التى كانت حوادثها الطوفانية أشبه ببروفة مبكرة لنهاية الكيان “الإسرائيلى” ، ومن دون أن تتوقف كوارث “إسرائيل” عندها ، بل زادت بعدها معدلات الهروب من الكيان بالهجرة العكسية ، أو فى انكماش “إسرائيل” بنزوح مئات آلاف المستوطنين من الشمال والجنوب إلى مدن الداخل المحتل ، وسحق أسطورة جيش الاحتلال القوى الذى لا يقهر ، ومرمطة جنوده وضباط نخبته على يد “كتائب القسام” وأخواتها فى معارك “غزة” ، الأكثر ضراوة وفتكا بمعنويات جيش الاحتلال وجمهوره المفزوع .
والمحصلة فيما جرى ويجرى ، أننا بصدد طرفين على جبهات النار ، طرف فلسطينى ينزف وينزح وتدمر موارد حياته ، وبأفظع مما حدث قبلا فى احتلال الخمسة والسبعين سنة ومجازره التى لا تحصى ، لكنه يبدى احتمالا وصبرا على المكاره والآلام المريعة والمحارق المروعة ، وصمودا أسطوريا فوق ركام المحن وأشلاء الاطفال والرضع والنساء والشيوح والعائلات المجتثة من الأجداد للأحفاد ، ويلتف حول كتائب المقاومة ، التى تبهر العالم بالتفوق الكاسح لعقيدة قتالها ، وبالإبداع المذهل فى فنون القتال ، فى مواجهة جيش الاحتلال المذعور المختبئ وراء أستار التكنولوجيا ، ويستقوى بقصف الطائرات والبوارج والمدافع من بعيد ، لكنه يبدو خائرا فى جولات قتال الرجال وجها لوجه ، ويبدو جنرالاته ضائعون فى متاهة حرب “غزة” ، غارقون فى وحلها ، يعلنون عن مراحل ثانية وثالثة ورابعة فى الحرب ، وهم لم يكملوا بعد المرحلة الأولى من الغزو البرى فى شمال القطاع ، ويلجأون إلى ما يسمونه إعادة تموضع ، وانسحابات من أحياء ومناطق ومخيمات دخلوها أول أيام التوغل البرى ، ويتحدثون عن هدف إقامة منطقة عازلة بطول حدود شمال وشرق وربما جنوب “غزة” ، قد تكون هدفا مثاليا لنشاط حركات المقاومة بعد توقف الحرب ، التى يصر “نتنياهو” وجنرالاته على استدامتها لمدى غير معلوم ، بينما يواجه غضب وتذمر قطاعات متزايدة داخل التجمع “الإسرائيلى” ، أظهرها مظاهرات أهالى الأسرى المحتجزين لدى “حماس” وأخواتها ، وقد بان فشل “نتنياهو” المتكرر المزمن فى إطلاق سراحهم بما يسميه ضغطا عسكريا ، بل قتل جيشه المذعور كثيرا منهم ، وهو ما يزيد من سخط ومخاوف أهالى الأسرى ، وبالذات مع إحباط مساعى “إسرائيل” فى الإفراج عن بعضهم مقابل هدن موقوتة ، فيما تتمسك “حماس” بصفقة شاملة ، لن تتم بغير وقف الحرب والعدوان “الإسرائيلى” ، والانسحاب الكامل من “غزة” ، والإفراج الكامل عن كافة الأسرى الفلسطينيين المحتجزين فى سجون العدو ، إضافة لخطط إعادة إعمار كل ما تدمر ، والموقف “الحماسى” معروف للمتابعين ، وقد سمعته شخصيا من السيد “إسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسى لحركة “حماس” ، عبر اتصال هاتفى ، بادر إليه متكرما ، حين كان فى زيارة قريبة إلى “القاهرة” ، وبما يعنى أن شروط “حماس” ليست إعلامية فحسب ، بل هى جوهر موقفها التفاوضى عبر الوسطاء العرب والأمريكيين ، وعن إدراك ظاهر لحرج الموقف الأمريكى ، الذى صدم بفشل خطة الحرب المتفق عليها مع “نتنياهو” ، ويتطلع لإنقاذ “إسرائيل” من حماقات وتهور وعشوائية حكومتها ، بينما يبدو موقف المقاومة مبنيا على قاعدة صلبة ، حجر الأساس فيها هو القتال بلا هوادة ، وإيقاع أكبر خسائر بشرية عسكرية بالعدو ، و”خض ورج” تفاعلات التجمع “الإسرائيلى” المحبط ، وإلى يوم غير بعيد ، تدفن فيه حرب “نتنياهو” البربرية الإجرامية .
[email protected]